تراجم

الفضيل بن عياض: ترجمة ودراسة

هـو الـفُـضَـيـل بـن عـيـاض بـن مـسـعـود بـن بـشـر، أبـو عـلـي الـيـربـوعـي الـتـمـيـمـي.

شــيـخ الـحـرم، وأحـد الـصـالـحـيـن والـعُـبَّـادِ. ولـد ســـنـة ١٠٧ هـجـريـة، عـلـى حـســـب مـا قـيـل.

أخـذ الـفـقـه عـن الإمــام أبــي حـنـيـفـة الـنـعـمـان، وروى عـنـه الإمـام الـشــافـعـي رحـمـهـم الـلَّـه، فـهـو بـذلـك قـد أخـذ الـعـلـم عـن إمـام عـظـيـم وأخـذ عـنـه الـعـلـم إمـام عـظـيـم. كـمـا روى لـه إمـامـان عـظـيـمـان آخـران هـمـا الـبـخـاري ومـســـلـم.

ولـد فـي ســـمـرقـنـد، ونـشـــأ فـي مـنـطـقـة أبـيـورد فـي خـراســـان وتـوفـي ســنـة ١٨٧ هـجـريـة.

أمـا اســمـه فـهـو تـصـغـيـر لـكـلـمـة فـاضـل، ولـيــس صـيـغـة مـبـالـغـة اســـم فـاعـل كـمـا ورد فـي مـواقـع الإنـتـرنـت؛ لأن صـيـغـة مـبـالـغـة الـفـاعـل تـكـون بـفـتـح الـفـاء (فَـضـيـل) وهـي هـنـا بـضـمـهـا.

تـوبـة الـفـضـيـل بـن عـيـاض

كـان الـفـضـيـل بـن عـيـاض قـاطـع طـريـق بـيـن مـنـطـقـة أبـيـورد وســـرخـــس فـي خـــراســـان، وكـان مـن ســـبـب تـوبـتـه أنـه عـشـــق جـاريـــة، فـبـيـنـمـا هـو يـرتـقـي الـجـدران إلـيـهـا إذ ســـمـع قـارئـاً يـتـلـو قـولـه تـعـالـى: {ألـم يـأن لـلـذيـن آمـنـوا أن تـخـشـــع قـلـوبـهـم لـذكـر الله}، فـقـال الـفـضـيـل: بـلـى يــا رب، قـد آن، فـرجـع عـن هــذا الـبـيـت، وفـي طـريـق عـودتـه اضـطـر لأن يـمـكـث فـي خـربـة بـســـبـب حــلـول الـلـيـل، فـإذا فـيـهـا أنـاس، فـقـال بـعـضـهـم: نـرحـل، وقـال بـعـضـهـم: حـتـى نـصـبـح؛ فـإن فـضـيـلاً ســـيـقـطـع الـطـريـق عـلـيـنـا، وهـم لا يـدرون أن الـفـضـيـل يـســـمـعـهـم.

فـقـال الـفـضـيـل فـي نـفـســـه: أنـا أســـعـى بـالـلـيـل فـي الـمـعـاصــي، وقـوم مـن الـمـســـلـمـيـن هـا هـنـا يـخـافـونـنـي، ومـا أرى الـلَّـه ســـاقـنـي إلـيـهـم إلا لأرتـــدع، فـقـال: الـلـهـم إنــي قـد تـبـت إلـيـك، وجـعـلـت تـوبـتـي مـجـاورةَ الـبـيـت الـحـرام.

قـضـى الـفـضـيـل فـتـرة مـن الـوقـت فـي الـكـوفـة؛ فـكـتـب الـعـلـم عـن عـلـمـائـهـا، مـثـل الأعـمـــش وعـطـاء بـن الـســـائـب وصـفـوان بـن ســـلـيـم وغـيـرهـم، وبـعـدهــا انـتـقـل إلـى مـكـة واســـتـقـر فـيـهـا.

مـاذا قـال الـعـلـمـاء عـن الـفـضـيـل؟

لـكـي نـوضـح لـكـم الـصـورة عـن حـيـاة هـذا الـعـالـم؛ ســـنـورد لـكـم بـعـض أقـوال الـعـلـمـاء فـيـه مـن الـذيـن عـايـشـــوه أو جـاؤوا بـعـده.

-قـال عـنـه إبـراهـيـم بـن الأشـــعـث: مـا رأيـت أحـداً كـان الـلَّـه فـي صـدره أعـظـم مـن الـفـضـيـل.

-قـال عـنـه ســـفـيـان بـن عـيـيـنـة: مـا رأيـت أحـداً أخـــوف مــن الـفـضـيـل وابـنـه. وقـال عـنـه: وهـو ثـقـة.

-قـال عـنـه إســـحـاق بـن إبـراهـيـم: كـان صـحـيـح الـحـديـث، صـدوق الـلـســـان، شـــديـد الـهـيـبـة لـلـحـديـث.

-قـال عـنـه أبـو حـاتـم والـنـســــائـي والـدارقـطـنـي ومـحـمـد بـن ســـعـد: كـان الـفـضـيـل ثـقـة.

الـوعــظ عـنـد الـفـضـيـل بـن عـيـاض

إن مـحـاور الـوعـظ مـشـــتـركـة عـنـد جـمـيـع الـعـلـمـاء، ولـكـن اهـتـمـامـات كـل عـالـم تـبـرز بـحـســـب أدواء الـمـجـتـمـع الـذي يـعـيــــش فـيـه، ويـكــون تـأكـيـد هـذا الـعـالـم عـلـى الأمـــر الـذي يـعـظ فـيـه تـبـعـاً لـشــــدة الـمـرض.

ومـن الـمـحـاور الـرئـيـســــة لـلـوعـظ عـنـد الـفـضـيـل بـن عـيـاض مـا يـلـي:

١ –الـتـزام الـكـتـاب والـسـنـة: وهذا هو المحور الأساس الذي تدور عليه مواعظ الوعاظ جميعهم، ويأخذ هذا الموضوع مكان الصدارة عند الفضيل بن عياض، فما فتئ في مواعظه يقول: عليكم بالكتاب، عليكم بالسنة. وكان يرى رحمه الله أن السبيل إلى الحياة الطيبة هو الإسلام والسنة، وأصحاب السنة هم الذين يحيي الله بهم البلاد والعباد، وأن مقياس صواب الأعمال أن تكون موافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

٢ –الخوف من الرياء، والإخلاص في العمل: شغلت هذه القضية مساحة كبيرة من مواعظ الفضيل، بل وكانت الهَمَّ المسيطر على نفسه؛ خوفاً من أن يُدِخِلَ في أعمالِه الرياءَ فيكون ذلك سبباً في بطلان ثوابها.

وقد وصل به الأمر في محاسبة نفسه من الرياء أن قال: لو حلفت أني مراءٍ كان أحب إلي من أن أحلف أني لست بمراءٍ.

وفي سبيل التخلص من الرياء، ومحاولة الوصول إلى الإخلاص كان من مواعظه:

-أخمل ذكرك، يريد أن على المرء أن يعمل من غير ذكر اسمه؛ حتى يحصل الثواب العظيم.

-إن قدرت أن لا تُعرفَ فافعل.

ونتيجة لانشغاله بهذا الجانب في تصفية الأعمال من الشوائب وصل إلى قاعدة في بيان شروط العمل المقبول، وهي: أن العمل المقبول هو الخالص الصواب.

ومعنى الخالص أن يكون لله بعيداً عن الرياء، والصواب أن يكون على السنة.

ثم يتحدث الفضيل ويعقد مقارنة بين الفسق الذي هو في درك المعاصي الأسفل، وبين الرياء، ليخلص إلى أن الفسق أهون من الرياء؛ وذلك لأن المعاصي يُتَغَلَّبُ عليها بالتوبة، وينتظر فيها المرء المغفرة من الله، على عكس الرياء الذي هو ذنب قَلَّ أن يشعر به صاحبه حتى يتوب منه.

وبهذا البيان يوضح الفضيل بن عياض خطر الرياء على المسلم محذراً من عواقبه الكبيرة.

٣ –تحري الطعام الحلال: من الأمور التي دعا إليها الفضيل: الاهتمام بأمر الطعام، والبحث عن الحلال، والبعد عن الشبهات. فمَنَ عَرَفَ ما يَدْخُلُ جوفَهُ كان عند الله صدِّيقاً، ثم يقول: انظر من أين يكون مطعمك يا مسكين.

وقال الفضيل: من لم يصحبه الو رع في فقر ه؛ أ كل الحر ام ا لمحض و هو لا يشعر.

وقال: لم يتزين النا س بشيء أفضل من الصد ق وطلب الحلا ل.

فطلب الحلال يعني أن نحاسب أنفسنا على كل ما يدخل في أيدينا من المال، وأن نحرص على الحلال وألا نقبل الشبهات ونبتعد عنها، وبهذا يكون طعامنا حلالاً.

٤ –التحذير من البدع: أكثر الفضيل بن عياض من مواعظ التحذير من البدع، وسبب ذلك إرادته أن يدعو المسلمين إلى التمسك بالسنة؛ فهي القضية الكبرى.

فمن أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه.

وإذ ا رأ يت مبتدعاً في طر يق فخذ في طر يق آخر.

بل ويذهب الفضيل إلى أبعد من ذلك فيقول: ومن جلس إلى صاحب بدعة فاحذره.

وما ذلك التحذير إلا لبيان ما تحمله البدعة في ثناياها من هدم للدين؛ فلا تقوم بدعة إلا على حساب انحسار سنة.

٥ –نصائحه للعلماء: يرى الفضيل أن العلماء هم قادة الأمة، ولذا ينبغي أن يكونوا ذروة القوم في عزة النفس، وأن يكونوا دائماً في موضع العطاء، لا في موضع الأخذ، وأن يكونوا بأفعالهم قدوة للناس جميعاً، لا أن يكونوا دعاة على أبواب جهنم.

يقو ل ا لفضيل: حا مل ا لقر آن حا مل راي ة الإ سلا م، لا ينبغي له أ ن يلهو مع من يلهو، و لا يلغو مع من يلغو، و لا يسهو مع من يسهو، و ينبغي لـ حا مل القر آن أ لا يكو ن له إ لى الخلق حا جة؛ لا إلى ا لخلفا ء فـ من دو نهم.

فإذا كان العالم كذلك فسيكون مطلوباً لا طالباً، محتاجاً له لا محتاجاً إلى غيره، وهكذا كان علماء المسلمين: إذا تَعَلَّمُوا عَمِلُوا، وإذا عَمِلُوا شَغَلُوا، وإذا شَغَلُوا فُقِدوا، وإذا فُقدوا طُلِبوا.

وعلماء الدنيا كما يصفهم الفضيل زِيُّهُمْ أشبه بزي كسرى وقيصر منه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذا ما استدعى بكاء الفضيل عليهم بقوله: إني لأبكي على العالِم إذا رأيت الدنيا تلعب به.

وقد كان العلماء ربيع الناس، وقد صاروا اليوم فتنة الناس.

وهو يعزو رحمه الله ما أصاب العلماء من خلل إلى فساد النية، فيقول:

-لو صحت النية في العلم؛ لم يكن عملٌ أفضل منه، ولكنهم تعلموه لغير العمل.

٦ –صلاح السلطان: يشترك الفضيل مع عبد الله بن المبارك في قولهما بضرورة وجود السلطان، وإلا فالفوضى سوف تسود البلاد، ولهذا يقول الفضيل:

-لو كان لي دعوة صالحة ما صيرتها إلا في الإمام؛ وذلك لأن في صلاح الإمام صلاح البلاد والعباد.

ولذا فالفضيل يقدم السلطان على خاصة نفسه في هذه الدعوة؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.

ويشرح لنا كيف يكون بالسلطان صلاح البلاد فيقول:

-إذا أمن الناس ظلم الإمام؛ عَمَّرُوا الخرابات، ونزلوا الأرض.

وهذه نظرة بعيدة ثاقبة في ذلك الوقت؛ لأن الأمن الذي يحصل بوجود الإمام الصالح يدفع الناس إلى الشعور بالاستقرار، الأمر الذي يدفعهم على البناء وإعمار الأرض.

٧ –حفظ اللسان: هذا الأمر شغل حيزاً كبيراً من مواعظ الفضيل؛ فسلامة الإنسان في حفظ لسانه، وحفظ اللسان أمر شديد على النفس، فلا جهاد أشد من حبس اللسان، وليس أحد أشد غماً ممن سَجَنَ لسانَه.

وتأتي الغيبة في مقدمة انحرافات اللسان، ومثال الذي يغتاب كالذي يَنْصِبُ منجنيقاً لحسناته، ويبدأ في رميها شرقاً وغرباً في كل جهة.

ويصف لنا الفضيل واقع الناس وكيف انتشرت الغيبة في مجالسهم، بما في ذلك بين طبقة العلماء والقراء؛ فالغيبة أصبحت فاكهة القراء، ومنهم من يجعلها كالأدم في الطعام.

و الغيبة حيثما حلت فـ إ نها تُبْطِلُ ا لأُ خُوَّ ةَ، و تَذ هب بـ ها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى