مقالات لغوية

حضارتنا بين التقليد والتجديد، الماضي والحاضر

إنَّهُ لا يخفى على أحدٍ ما تمرُّ بِهِ الحضارةُ الإسلاميَّةُ مِنَ الضَّياعِ والشَّتاتِ، وما أُصيبَتْ بِهِ مِنْ داءِ التَّقليدِ والحداثةِ، حتَّى دخلْنَا في ظلماتٍ بعضُهَا فوقَ بعضٍ، وفي خِضَمِّ هذهِ الظُّلماتِ انبرى مِنْ هذهِ الأُمَّةِ مفكِّرونَ رسمُوا النَّهجَ وأنارُوا الطَّريقَ للأُمَّةِ حتَّى تستعيدَ دورَهَا الحضاريَّ الَّذي فقدتْهُ منذُ أكثرِ مِنْ قرنٍ.

لذا سأتناولُ قضيَّةَ التَّجديدِ والتَّقليدِ كمَا رآهَا بعضُ مفكِّري الأمَّةِ.

أوَّلاً: هلْ تراثُنَا رجعيَّةٌ وتخلُّفٌ؟ هلْ ماضينَا هوَ العائقُ في نهضتِنَا وتقدُّمِنَا؟

إنَّ الجوابَ على هذا السُّؤالِ هوَ بالطَّبعِ: لا، لكنْ هلْ يكفي أنْ ننشغلَ بماضينَا ونتركَ الحاضرَ والمستقبلَ؟

يقولُ محمودٌ شاكرٌ: «يجبْ أنْ نأخذَ الحاضرَ والماضي بالعقلِ والعلمِ والفضيلةِ، وما لمْ يكنْ كذلِكَ ممَّا مضى وممَّا حضرَ فهوَ نبذٌ يجبُ أنْ ننبذَهُ ونتجافى عنْهُ، يجبْ أنْ نتحرَّرَ، يجبُ أنْ نتحرَّرَ».

فمعيارُ قبولِ الماضي والحاضرِ عندَ شاكرٍ هوَ أنْ يوافقَ العقلَ والفضيلةَ والعلمَ، وغيرُ ذلِكَ فهوَ منبوذٌ.

وهذا طه حسينٌ يُثني على مَنْ يجمعُ بينَ الماضي والحاضرِ، بينَ القديمِ والحديثِ، يقولُ: «والَّذين تلفتُهُمُ الحضارةُ الحديثةُ إلى أنفسِهِمْ، وتدفعُهُمْ إلى إحياءِ قديمِهِمْ، وتملأُ أنفسَهُمْ إيماناً بأنَّ لا حياةَ لمصرَ إلَّا إذا عُنِيَتْ بتاريخِهَا القديمِ وتاريخِهَا الإسلاميِّ، وبالأدبِ العربيِّ قديمِهِ وحديثِهِ، هؤلاءِ هُمُ الَّذين فهمُوا وهُمُ القادرونَ على أنْ ينفعُوا في إقامةِ الحياةِ الجديدةِ».

أمَّا عبدُ الوهَّابِ المسيريِّ؛ فإنَّهُ يطرحُ المشكلةَ الَّتي تعيقُ تقدُّمَ الحضارةِ الإسلاميَّةِ، ويطرحُهَا على شكلِ سؤالٍ، يقولُ: «إنَّ المشكلةَ الَّتي تواجهُنَا هيَ: هلْ يمكنُ أنْ نَدخلَ المستقبلَ ومعَنَا ماضينَا؟ نحملُهُ كهويَّةٍ وذاتٍ تحرِّرُنَا مِنَ اللَّحظةِ المباشرةِ، وتحفظُ لنَا خصوصيَّتَنَا، وتساعدُنَا على أنْ نجدَ اتِّجاهَنَا، لا كعبءٍ يُثقلُ كاهلَنَا؟».

ويُجيبُ المسيريُّ على نفسِهِ، يقولُ: «يمكنُنَا التَّصالحُ بينَ الماضي والمستقبلِ، حتَّى لا ننتهي إلى ماضٍ دونَ مستقبلٍ، أو مستقبلٍ دونَ ماضٍ كمَا يحدثُ في بلدانِ الغربِ».

إذاً مِنْ خلالِ ما قدَّمْنَا نرى أنَّ ماضينَا ليسَ هوَ العائقُ في ازدهارِ حضارتِنَا، وإنَّمَا العائقُ كامنٌ في عدمِ توفيقِنَا بينَ الماضي والحاضرِ، فإمَّا أنْ نتركَ الأوَّلَ وننشغلَ بالثَّاني وإمَّا العكسُ.

فيجبُ أنْ نأخذَ مِنَ الماضي والحاضرِ ما يعينُنَا على بناءِ وازدهارِ حضارتِنَا، وألَّا ندعَ الأمرَ كلَّهُ.

ثانياً: هلِ التَّجديدُ هوَ التَّقليدُ؟

وكيَف يكونُ التَّجديدُ؟ وما الحداثةُ؟ وهلْ حذَّرَ الإسلامُ منْهَا كمَا ادَّعى مَنِ ادَّعى؟

إنَّ التَّقليدَ مِنْ أخطرِ ما أُصيبَتْ بِهِ الحضارةُ الإسلاميَّةُ، فهوَ في الغالبِ لا يأتي بالخيرِ، ولا يكادُ يفلحُ المقلِّدُ أبداً. يقولُ محمودٌ شاكرٌ: «فالمقلِّدُ لا يفلحُ أبداً، وإنَّمَا يفلحُ مَنْ جاءَ الإحساسُ بالشَّيءِ مِنْ قَرارةِ نفسِهِ».

وفي موضعٍ آخرَ يشيرُ محمودٌ شاكرٌ إلى داءِ التَّقليدِ، وأنَّهُ إنِّمَا يُصيبُ الأممَ الضَّعيفةَ، يقولُ: «ومِنْ بلاءِ الأممِ الضَّعيفةِ بنفسِهَا أنَّ انبعاثَهَا إلى التَّقليدِ ـ تقليدِ القويِّ ـ أشدُّ مِنِ انبعاثِهَا لتجديدِ تاريخِهَا بأسبابِ القوَّةِ الَّتي تدفعُ في أعصابِهَا عنفوانَ الحياةِ، والضَّعفُ يجعلُ محاكاةَ القويِّ أصلاً في كلِّ أعمالِهِ».

ويبدو أنَّ شاكراً أرادَ شيئاً مُهمَّاً: وهوَ أنَّ الضَّعيفَ مَنْ جَهِلَ نفسَهُ وما أدركَ مكامنَ قوَّتِهَا، فقادَهُ هذا الضَّعفُ إلى تقليدِ القويِّ، حتَّى صارَ بلاءً ووباءً عليهِ.

ويتابعُ شاكرٌ فيقولُ في موضعِ آخرَ واصفاً الحضارةَ الَّتي تأتي مِنَ التَّقليدِ، والفنَّ الَّذي يأتي مِنَ التَّقليدِ، يقولُ: «والحضارةُ الَّتي تأتي مِنَ التَّقليدِ ليسَتْ حضارةً، وإنَّمَا هيَ تزييفٌ وكذبٌ ووثنيَّةٌ جاهليَّةٌ. وكلُّ فنٍّ يأتي مِنَ التَّقليدِ واستيحاءِ فنونِ النَّاسِ، هوَ فنٌّ كالمولودِ السِّقطِ في آخرِ تسعةِ أشهرٍ مِنْ حملِهِ، فيهِ صورةُ الحيِّ، ولكنْ ليسَتْ فيهِ الحياةُ، فيهِ قوَّةُ المشابهةِ للحيِّ، ولكنْ ليسَتْ فيهِ قوَّةُ استمرارِ الحيِّ على الحياةِ».

ويُنَبِّهُنَا سيِّدٌ قطبٌ على سببٍ في غايةِ الأهمِّيَّةِ مِنْ أسبابِ التَّقليدِ: يقولُ: «فالهزيمةُ الدَّاخليَّةُ تجاهَ مجتمعٍ معيَّنٍ هيَ الَّتي تتدسَّسُ في النَّفسِ لتقلِّدَ مجتمعاً معيَّناً».

إذًا فمِنْ أهمِّ أسبابِ التَّقليدِ هوَ الضَّعفُ النَّفسيُّ والوهنُ الَّذي خيَّمَ على الأُمَّةِ.

والتَّجديدُ ليسَ هوَ التَّقليدُ، بلْ هوَ العكسُ، والتَّجديدُ كمَا يراهُ طه حسينٌ: «فليسَ التَّجديدُ في إماتةِ القديمِ، وإنَّمَا التَّجديدُ في إحياءِ القديمِ، وأخذِ ما يصلحُ منْهُ للبقاءِ».

والتَّجديدُ هوَ أنْ نمتلكَ حاسَّةَ التَّذوُّقِ؛ فالَّذي يفقدُهَا يفقدُ أسبابَ بقائِهِ، يقولُ محمودٌ شاكرٌ: «كلُّ حضارةٍ بالغةٍ تفقدُ دقَّةَ التَّذوُّقِ، تفقدُ معَهَا أسبابَ بقائِهَا، والتَّذوُّقُ ليسَ قِواماً للآدابِ والفنونِ، بلْ هوَ أيضاً قِوامٌ لكلِّ علمٍ وصناعةٍ».

إذًا فالتَّجديدُ هوَ أنْ تمتلكَ هذهِ الحضارةُ حاسَّةَ ذوقٍ مستقلَّةً، تأخذُ ما يوافقُ ذوقَهَا، وتنبذُ ما سواهُ، يقولُ شاكرٌ: «وكلُّ حضارةٍ ناميةٍ تريدُ أنْ تفرضَ وجودَهَا، وتبلغَ تمامَ تكوينِهَا، إذا لمْ تستقلَّ بتذوُّقٍ حسَّاسٍ ناقدٍ، تختصُّ بِهِ وتنفردُ لمْ يكنْ لإرادتِهَا في فرضِ وجودِهَا معنىً يُعقلُ، بلْ تكونُ هذهِ الإرادةُ أنْ تكونَ فرضاً مِنَ التَّوهُّمِ والأحلامِ لا خيرَ فيهِ».

ويرشدُنَا شاكرٌ إلى سبيلِ التَّجديدِ، فيقولُ: «إنَّ عملَ العاملِ في أوَّلِ الطَّريقِ غيرُ عملِهِ في آخرِهِ؛ فنحنُ سوفَ نبدأُ بإذنِ اللَّهِ، فعملُنَا الآنَ هوَ إنقاذُ أرواحِ الملايينِ مِنَ الموتِ ومِنَ الفتورِ ومِنَ الكسلِ، وليسَ عملُنَا أنْ نضعَ الأسسَ العلميَّةَ أوِ السِّياسيَّةَ أوِ الأدبيَّةَ لأرواحِ مواتٍ لا حركةَ فيهَا ولا انبعاثَ لَهَا، وما جدوى عملٍ لا روحَ فيهِ؟ أو سياسةٍ لا نشاطَ فيهَا؟ أو أدبٍ لا قلبَ لَهُ؟»

فحاسَّةُ التَّذوُّقِ لا تكونُ إلَّا في إنسانٍ صاحبِ همَّةٍ ونشاطٍ وإرادةٍ، لا في إنسانٍ على شكلِ هيكلٍ عظميٍّ، شبهِ ميِّتٍ، فيجبُ أوَّلاً إحياءُ النُّفوسِ ثُمَّ إحياءُ حاسَّةِ التَّذوُّقِ حتَّى تكونَ لَنَا الحضارةُ الَّتي يرتضيهَا لنَا إسلامُنَا، ونرتضيهَا لأنفسِنَا.

ويكفي أنْ نشيرَ إلى مصطلحِ الحداثةِ في تعريفٍ لخَّصَهَا فيهِ عبدُ الوهَّابِ المسيريُّ، يقولُ: «إنَّ المطلوبَ هوَ حداثةٌ جديدةٌ، تتبنَّى العلمَ والتِّكنولوجيا، ولا تضربُ بالقيمِ عرضَ الحائطِ، حداثةٌ تحيي العقلَ ولا تميتُ القلبَ، تنمِّي وجودَنَا المادِّيَّ ولا تنكرُ الأبعادَ الرُّوحيَّةَ لهذَا الوجودِ، تعيشُ الحاضرَ دونَ أنْ تنكرَ التُّراثَ، وهيَ مسألةٌ ولا شكَّ صعبةٌ، ولكنَّهَا ليسَتْ مستحيلةً».

فالحداثةُ الَّتي تأتي بالعلمِ الَّذي ينفعُ الإنسانَ والَّذي هوَ علمٌ حثَّنَا عليهِ إسلامُنَا، فهذهِ هيَ الحداثةُ المطلوبةُ؛ لأنَّهُ مِنَ المحالِ أنْ يحثَّنَا إسلامُنَا على شيءٍ ثُمَّ ينهانَا عنْ ضدِّهِ ويحذِّرَنَا منْهُ.

وأخيراً

يا شبابَ الأُمَّةِ: إنَّ علينَا أنْ نعملَ، فإنْ كانَ ما أردناهُ وما نتمنَّاهُ، فذاكَ عزُّ الإنسانيَّةِ ورضوانٌ مِنَ اللَّهِ، وإلَّا فقدْ أدَّينَا ما وجبَ، وللَّهِ الأمرُ مِنْ قبلُ ومِنْ بعدُ.

وإنَّنَا إذا تركْنَا هؤلاءِ المفسدينَ العابثينَ يمرحونَ ويسرحونَ، بلا رقيبٍ على سوءِ أعمالِهِمْ، فإنَّنَا بلا شكٍّ نسيرُ إلى شرِّ غايةٍ.

ولا يؤتى المرءُ إلَّا مِنْ غفلتِهِ، وشرُّ الأعمالِ التَّهاونُ، ورُبَّ شرارةٍ صارَتْ ناراً متضرِّمةً.

فاعملُوا أيُّهَا الشَّبابُ فسيرى اللَّهُ عملَكُمْ …….. والحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ. 

المصادرُ والمراجعُ

  • عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية.
  • سيد قطب، في ظلال القرآن م١.
  • محمود شاكر، أباطيل وأسمار.
  • محمود شاكر، جمهرة المقالات.
  • محمود شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى