مقالات لغوية

كيف ولماذا تنقرض اللغات؟ وما آثارها وطريقة الحفاظ على اللغة؟

اللغة هي إحدى أقوى أدوات التواصل والتعبير الإنساني؛ فهي تعكس ثقافتنا وهويتنا وتاريخنا. ومع ذلك، لا تصمد جميع اللغات أمام اختبار الزمن. وفقاً لأطلس اليونسكو للغات العالم المعرضة للخطر، ثمة حالياً 2464 لغة مهددة بالانقراض أو منقرضة. وهذا يعني أنه في كل أسبوعين، تموت لغة ما مع آخر متحدث لها. ولكن كيف ولماذا تنقرض اللغات؟ وما هي عواقب فقدان التنوع اللغوي؟

أسباب موت اللغة

توجد العديد من العوامل التي يمكن أن تساهم في تراجع اللغة واختفاءها. بعض هذه العوامل الأكثر وضوحاً ما يلي:

أ -الاستعمار والقمع: عندما تُفْرَضُ لغة مهيمنة من قبل قوة استعمارية أو قمعية؛ فإنه قد يُجْبَرُ المتحدثون بلغات الأقليات أو يُكْرَهُون على التخلي عن لغاتهم الأصلية. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحول اللغة، حيث يتبنى المتحدثون تدريجياً اللغة السائدة كوسيلة أساسية أو وحيدة للتواصل. على سبيل المثال، قُمِعَتِ العديد من لغات السكان الأصليين في أميركا الشمالية وأستراليا وإفريقية أو قُضِيَ عليها من قبل المستعمرين الأوروبيين.

ب -العولمة والتحديث: نظراً لأن العالم أصبح أكثر ترابطاً وتأثراً بالاتجاهات العالمية؛ فقد تفقد اللغات التي لا تُسْتَخْدَمُ أو لا تُدْعَمُ على نطاق واسع هيبتها وأهميتها. قد يتحول المتحدثون بهذه اللغات إلى لغات أكثر هيمنة أو فائدة للتعليم أو التوظيف أو الحراك الاجتماعي. على سبيل المثال، أصبحت العديد من اللغات الإقليمية في أوروبا، وآسيا، وأميركا اللاتينية مهددة بسبب انتشار اللغة الإنكليزية، والإسبانية، والماندارين الصينية، وغيرها من اللغات الرئيسة.

ج -الكوارث الطبيعية والأمراض: في بعض الأحيان، يمكن أن تموت اللغات بسبب أحداث غير متوقعة تقضي على جزء كبير من المتحدثين بها. وهذا يحدث عندما تؤدي كارثة طبيعية، مثل الزلزال أو التسونامي أو الانفجار البركاني، إلى تدمير مجتمع أو جزيرة. ويمكن أن يحدث أيضاً عندما يؤدي مرض، مثل الوباء أو الطاعون أو الإبادة الجماعية، إلى القضاء على السكان. على سبيل المثال، انقرضت لغة إياك (Eyak language) في ألاسكا في عام 2008، عندما توفيت آخر المتحدثين بها، وهي تدعى ماري سميث جونز (Marie Smith Jones)، لأسباب طبيعية.

آثار فقدان اللغة

إن انقراض اللغة لا يعني فقط فقدان الكلمات والأصوات، بل يعني أيضاً فقدان المعرفة والثقافة. عندما تموت اللغة فإنها تأخذ معها ما يلي:

أ -النظرة العالمية للمتحدثين بها وقيمهم: تشكل اللغة كيفية إدراكنا للعالم وتفاعلنا معه. فهي يرمز إلى معتقداتنا وأعرافنا وعاداتنا. كما تعكس هويتنا وشعورنا بالانتماء. عندما تموت لغة ما، فإننا نفقد منظوراً فريداً وتراثاً غنياً.

ب -المعلومات البيئية والتاريخية لمتحدثيها: تحتوي اللغة على ثروة من المعلومات حول البيئة وتاريخ المتحدثين بها. وهي تسمي وتصف النباتات والحيوانات والظواهر في منطقة معينة. وهي تسجل وتنقل القصص والخرافات والأساطير والبطولات لشعب معين. عندما تموت اللغة، فإننا نفقد مصدراً قَيِّماً للمعرفة والحكمة.

ج -التنوع اللغوي والمعرفي للإنسانية: اللغة هي واحدة من أكثر منتجات الإدراك البشري تعقيداً وإبداعاً. فهي تعرض تَنَوُّعَ وبراعة الفكر البشري. وتكشف عن أوجه التشابه والاختلاف بين المجموعات البشرية. عندما تموت اللغة، نفقد جزءاً من أحجية اللغة والعقل البشري.

ما طرق حفظ اللغات وإحيائها؟

إن فقدان اللغات ليس أمراً حتمياً؛ إذ توجد العديد من الطرق للحفاظ على اللغات المهددة أو المنقرضة وإحيائها. بعض هذه الطرق وأكثرها فعالية ما يلي:

  • التوثيق والأرشفة: الخطوة الأولى لحفظ اللغة هي توثيقها وأرشفتها. يتضمن ذلك تسجيل ونسخ كلام وكتابة المتحدثين. ويتضمن أيضاً إنشاء قواميس وقواعد ومجموعات اللغة. وبهذه الطريقة، يمكن للأجيال القادمة دراسة اللغة والوصول إليها.
  • التعليم ومحو الأمية: الخطوة الثانية لحفظ اللغة هي تعليم المتحدثين بها ومحو أميتهم. وهذا ينطوي على تدريس وتعلم اللغة في البيئات الرسمية وغير الرسمية. كما يتضمن تطوير واستخدام المواد والوسائط في اللغة. وبهذه الطريقة يمكن الحفاظ على اللغة وتطويرها من قبل الأجيال الحالية.
  • النشاط والوعي: الخطوة الثالثة لحفظ اللغة هي تنشيط وتوعية المتحدثين بها وغيرهم. يتضمن ذلك تعزيز ودعم استخدام وقيمة اللغة في مختلف المجالات والسياقات. كما أنها تنطوي على رفع ونشر الوعي والتقدير للغة بين الجمهور وصانعي السياسات. وبهذه الطريقة، يمكن تمكين اللغة وحمايتها من قبل جميع الأجيال.

خاتمة

اللغات ليست كيانات ثابتة أو معزولة. إنها أنظمة ديناميكية ومترابطة تتطور وتتغير بمرور الوقت. وهي تتأثر وتؤثر بعوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية وبيئية مختلفة. يمكن أن تنمو وتزدهر، أو يمكن أن تتراجع وتختفي.

إن موت اللغة هو مأساة للإنسانية. إنها خسارة لشكل فريد من أشكال التواصل والتعبير لا يمكن تعويضه. وهي خسارة مصدر غني ومتنوع للمعرفة والثقافة. كما أنها خسارة جزء حيوي وقيم من هويتنا وتراثنا الجماعي.

ومع ذلك، فإن موت اللغة ليس أمراً حتمياً. يمكن منعه وعكسه. يمكن توثيقها وأرشفتها. يمكن أن نعلمها ونتعلمها. ويمكن تفعيلها واستيعابها والحفاظ عليها وتنشيطها.

لدينا جميعاً دور ومسؤولية لإنقاذ لغات العالم. لدينا جميعاً مصلحة ومنفعة في إنقاذ لغات العالم. لدينا جميعاً سبب ودافع لإنقاذ لغات العالم.

لأن اللغات ليست مجرد كلمات وأصوات. إنها النوافذ والمرايا. إنها الجسور والجدران. هي المفاتيح والأقفال، وهي الكنوز والهدايا.

إنها لنا ولكم.

زر الذهاب إلى الأعلى