مقالات لغوية

قناةُ الجَزِيرَة بِعَيْنٍ غَزيَّةٍ لُغويةٍ ذَابِلَةٍ

بقلم: أبو بكر وسام عابد.

تسعةٌ وأربعون يومًا من الدِّماء والأشلاء والمعاناة والقهر والذُّل والحرمان، وضف ما شئت من أوصاف العذاب الأخرى. فأعين الغزِّيِّين وقلوبهم تصبح بلا صباح وتمسي بلا مساء. يعيشون دون واو الجماعة وبخوف حذف النُّون في طرفة عين عوراء.
بيوت معظمها مهجورة، وآلاف من النَّازحين يعانون ويكافحون لأجل حياة حيث لا حياة. يشربون الماء رشفة، ويمضغون الطَّعام لقمة، ويبلعونها علقمًا كالجمال، فغزَّة درس الحياة بل كلُّ الحياة.
وما بين تلفاز ومذياع، يعمُّ صدى صوت الجزيرة أرجاء المكان. الجدُّ وائل والعمُّ هشام يحكيان قصَّة غزَّة للعالم، ومذيعو الجزيرة يخطِّطون الغين والزَّين والتَّاء ما بين غبار الرُّكام وزينة الشُّهداء وتصدٍّ للأعداء.
فعند اكتمال كلِّ ساعة ودقِّ عقربها، يجتمع الصَّغير قبل الكبير، ويبدأ الهدوء باحتلال الاجتماع، فيُسمع صوت ابن قنَّة أو كريشان أو حمدان أو مزيمر أو غيرهم من الشُّجعان. ولكنَّنا كلَّما رأينا ذلك الإستوديو مُغطّى بالرَّماديِّ والأحمر أو سمعنا تتر الموسيقى الحربيَّة تلك، هُزَّت قلوبنا بفجع الاستمرار.
” مستمرِّون بالتَّغطية” أول كلمتين نسمعهما، وحقيقة لسنا بحاجة لسماعهما؛ فألوان الإستوديو وتتر الموسيقى تنوين عوض عن الجملة كلِّها.
كلُّ من يجلس يريد سماع الأخبار، وللأسف لا إبريق شاي يُوضع ولا فنجان قهوة يُحتسى. أمَّا أنا فأغار على لغتي لدرجة الجنون، وأفقد صوابي حينما أسمع خطأ لغويًّا- وهنا لا أقصد فتحة عوض كسرة أو ضمَّة بدل سكون أو غيرها من الحركات. فهذه تسقط سهوًا، وكلُّنا نقع فيها وباستمرار ربَّما. بل أقصد تلك الكلمات والعبارات الَّتي أحسست أنَّ المذيعين والمراسلين وغيرهم قد غابت عن بالهم.
أسمع “قذائفًا” لكنَّني متأكِّد برؤيتها دون شظيَّة أخرى على الفاء لمنعها من الصَّرف. وحصاري مكسور بلا شكٍّ والقطاع “الغير محاصر” ستغادره ال التَّعريف إلى محاصر وسيصبح حرًّا في يوم من الأيَّام.
وربَّما فهمت أنَّ الجثَّة الأخيرة من الشُّهداء ذكرًا بعدما سمعت ” مئة وأحد عشر جثَّة”، لكنَّني استدركت أنَّها مئة وإحدى عشرة جثَّة.
وضايقني تسلُّل ال التَّعريف إلى العدد بعد هروبها من المعدود، فقد سمعتها كثيرًا ومرارًا ما بين “خلال الاثني عشرة ساعة الأخيرة” و” العشرة أيَّام الأخيرة” و “في الخمسة حروب السَّابقة” و ” خلال العشرة دقائق الأخيرة”. والصَّحيح بلا شكٍّ تعريف المعدود لا العدد.
وأمَّا عن سكون عين مع؛ فالفتحة تبكي على حالها بعد طردها من “معْي ومعْنا ومعْهم ومعْك” وباقي الضَّمائر المُتَّصلة، فاللَّه سبحانه وتعالى قال: ” أنْ أرسل مَعَنَا بني إسرائيل” في سورة الشُّعراء.
أمَّا عن “حيث أن” فربما إنَّ أنَّتْ من ألمها لأنَّها هي الصواب. و”مرَّت سنين” أزعلت سنون وأحزنتها؛ لأنَّها ملحق جمع مذكَّر سالم. و”يساهم” فعل في معركة السِّهام لتصيب الهدف يسهم.
ولا النَّافية لا تحذف نون فعل الأفعال الخمسة، إذ إنهم لا يزالون لا “لا يزالوا”. وكُرِّرَ على مسمعي “البعض” و “الكل” غير أنَّ الأرجح صوابه تعريفهما بالإضافة لا بـ ال التَّعريف كما ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع، قال اللَّه تعالى في سورة يس: “وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” وقال اللَّه تعالى في سورة البقرة أيضًا: “وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيكُمْ”.
وأمَّا عن الجموع؛ ففتح عين فَعْلَة في جمعها مألوف بين النَّاس، لكنه خطأ عند أهل اللُّغة. إذن ضرْبات وجلْسات بدلًا من “ضرَبات” و”جلَسات”.
“يتواجد الاحتلال” جملة لا تُنسب لعدوٍّ غاشم مثله؛ فالعشق والوجد صفتان تلزمان النَّقاء والصَّفاء لا الوحشيَّة والعنجهيَّة. فهو يوجد في مناطق ما، لكنَّ زواله حتميٌّ لا محالة.
“حسَبَ التَّقارير” فعددها سبعة مثلًا، لكن حسْب التَّقارير بسكون السِّين هي الصَّحيحة. أمَّا عن “بالكاد” فهي شبيهة بقولنا بالصّان. لكن بالصّان ستظهر خطأ جليًّا للنَّاس، فالصَّواب بالصّوْن. إذن الأمر نفسه ينطبق على بالكاد، فالصَّحيح أن نقول بالكَوْد.
أَّما عن التَّضعيف في ماضي بعض الأفعال كاستمرَّ واستمدَّ، فهو شِبه منسيٍّ. سمعت “استمرَّينا” ولكنَّها يجب أن تكون استمررنا.
وأمَّا عن “إخلاء السُّكان”، فأنا معهم؛ لأن النَّاس حقًّا خاليون ممَّا رأوه خلال هذه الحرب الطَّاحنة. وإجلاء السُّكان وإخلاء البيوت أصبح ما يهرع ويفزع منه قلوب النَّاس كلَّ يوم.
غير أنَّ استخدام حروف الجرِّ فيه بعض من الشَّوائب، فالفعل ينمُّ يحبُّ حرف الجرِّ بِ لا “على”. وأكَّد ليس بحاجة إلى حرف الجرِّ “على” في “أكَّدوا على البنود التَّالية”.
فضلًا عن الخطأ في إلصاق حرف الجرِّ بِ مع الأفعال “يعلن” في “يعلن بأنَّ الهدنة ستكون مدَّتها” و”أضاف” في ” وأضاف بأنَّ على كلٍّ من الطرفين الالتزام بالهدنة” و”علمَ” في “يعلم بأهمِّيَّة هذا القرار” و”بدأ” في “بدأ بفعل هذه المجازر” و”كلّف” في “وكلَّفوه بالتَّقدُّم نحو المناطق الشرقيَّة” و”طَالبَ” في ” يطالبون بسدِّ احتياجاتهم الأساسيَّة” و”أفادَ” في “أفاد مراسل الجزيرة بأنَّ عدَّة منازل”.
ولنتعمَّق قليلًا في استخدام حروف الجرِّ في غير محلِّها، مثلَ: “أبدوا رغبتهم بالتَّفاوض في ملفِّ الأسرى”، والصَّحيح هو استخدام حرف الجرِّ في لا بِ. “بأن توصَّلوا لهذا القرار” تتضمَّن خطأ في حروف الجرِّ. والصَّحيح هو: “بأن توصَّلوا إلى هذا القرار”.
ونضيف إلى القائمة:” أي أنَّهم لن يخرجوا عن قوانين الحرب”، والصَّحيح هو “لن يخرجوا على قوانين الحرب”. كما أنَّ الفعل يبعث لا يُلصقُ بحرف الجرِّ “إلى” بل على. وأخيرًا، “ينمُّ عن توتُّر غير مسبوق في جيش الاحتلال” تريد حرف الجرِّ على بدلًا من “عن”.

ووَسَط الشَّيء أي منتصفه أمَّا وَسْط فهي ظرف مكان. إذن لا نقول:” وسَط كلِّ هذه التَّكهُّنات خلال هذه المواجهات”. وفعل القول يلزمه إنّ لا أنّ، فجملة “يقولون أنَّهم قد عانوا كثيرًا خلال هذا العدوان”خطأ، والصَّحيح يقولون إنَّهم قد عانوا خلال هذا العدوان.
ولي رسالة لهم من قلب غزَّة من دير البلح تحديدًا:
وإنْ كَتَبْتُم فلا تكتبُوا مجزرةً
فالنَّاسُ قد اعتادوا المجازرَ والمذابحَ
واخطُطْ بيدك لفظَ فاجعةٍ
فالفجعُ أهوُل وأمرُّ من العلقمِ
لا بدّ لشمسِ غزَّةَ أنْ تشرقَ
ألا لَا العيبُ فيها أنْ تُبثقَ
دَعِيني أراكِ وقت الصَّباحِ
ولا تغيبي عنّي بعدَها قَدْرَ الملاحِ
ولكي أختم سطوري المتواضعة: إنَّ قناة الجزيرة عَلَمٌّ يرفرف عاليًا في سماء الإعلام، إن لم يكن أعلاها. وكلُّنا في الوطن العربيِّ وغيره قد تعلَّمنا وتربَّينا وترعرعنا على رؤية هؤلاء الأبطال أمام الشَّاشة. وسطوري هذه هي تعبير صادق عن حبِّي لهم وتقديري لجهودهم المضنية اللَّامعة في سماء الإعلام.

زر الذهاب إلى الأعلى