النثر

نص نثري في مدح الشتاء وذمه

يُعَدُّ فَصْلُ الشِّتَاءِ مِنَ الْفُصُولِ الْمُحَبَّبَةِ لَدَى الْبَعْضِ، بَينَمَا يَكْرَهُهُ آخَرُونَ، وَلِكُلٍّ حُجَجُهُ فِي حُبِّهِ وَكُرْهِهِ، فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ النَّثْرِيَّةِ نَقَلْنَا لَكُمْ بَعْضَ النُّصُوصِ النَّثْرِيَّةِ وَالشِّعْرِيَّةِ فِي مَدْحِ الشِّتَاءِ وَذَمِّهِ مِنْ كِتَابِ اللَّطَائِفِ وَالظَّرَائِفِ لِلثَّعَالِبِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٤٢٩ هـ.

جَاءَ فِي الْكِتَابِ تَحْتَ عُنْوَانٍ اسْمُهُ:

بَابُ مَدْحِ الشِّتَاءِ

أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ قَولُ الَّنَبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ، قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَهُ، وَطَالَ لَيلُهُ فَقَامَهُ». وَهَذَا إِسْنَادُهُ فِيهِ ضَعْفٌ.

وَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو تَمَّامٍ فِي قَولِهِ:

إِنَّ الشِّتَاءَ عَلَى سَآمَةِ وَجْهِهِ … لَهُوَ الْمُفِيدُ طَلَاوَةُ الْمُصْطَافِ

وَقَالَ آخَرُ:

لَولَا الَّذِي غَرَسَ الشِّتَاءَ بِكَفِّهِ … قَاسَى الْمُصِيفُ هَشَائِماً لَا تُثْمِرُ

وَقَالَ آخَرُ:

خَضْرَةُ الصَّيفِ مِنْ بَيَاضِ الشِّتَاءِ … وَابْتِسَامُ الثَّرَى بُكَاءُ السَّمَاءِ

قَالَ الثَّعَالِبِيُّ: وَمِنْ مَحَاسِنِ الشِّتَاءِ؛ طُولُ اللَّيلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ سَكَناً وَلِبَاساً، وَبَرْدُ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ، وَانْقِطَاعُ الذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ، وَعَدْمُ ذَوَاتِ السُّمُومِ مِنَ الْهَوَامِّ، وَأَمْنُهَا عَلَى الطَّعَامِ وَالْأَجْسَامِ، وَهُوَ حَبِيبُ الْمُلُوكِ وَأَلِيفُ الْمُتَنَعِّمِينَ؛ يَطِيبُ لَهُمْ فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَيَجْتَمِعُ فِيهِ الشَّمْلُ، وَيَظْهَرُ فِيهِ فَضْلُ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ، وَهُوَ زَمَانُ الرَّاحَةِ كَمَا أَنَّ الصَّيفَ زَمَانُ الْكَدِّ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: مَنْ لَمْ يَغْلِ دِمَاغُهُ صَائِفاً لَمْ تَغْلِ قُدُورُهُ شَاتِياً، كَمَا قِيلَ:

وَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَغْلِ صَيفاً دِمَاغُهْ … وَجِدِّكَ لَا تَغْلِي شِتَاءً قُدُورُهْ

كَذَلِكَ مَقْسُومُ الْمَعَايِشِ فِي الْوَرَى … بِسَعْيٍ وَرَعْيٍ تَسْتَبِينُ أُمُورُهْ

وَمَدَحَ بَعْضُ الدَّهَّاقِينَ الشِّتَاءَ فَقَالَ: آكُلُ فِيهِ مَا جَمَعْتُ، وَأَسْتَمْتِعُ بِمَا ادَّخَرْتُ، وَأَيُّ شَيءٍ أَحْسَنُ مِنْ كَانُونِي فِي كَانُونَ، وَمِنْ لَبْسِ الْخَزِّ وَالسَّمُورِ، وَالْقُعُودِ فِي الطَّوَارِمِ مَعَ الْأَحْبَابِ، وَتَنَاوُلُ الدُّرَّاجِ وَالْكَبَابِ، وَالِاسْتِظْهَارُ عَلَى الْبَرْدِ بِالشَّرَابِ، وَالشُّرْبُ عَلَى الثَّلْجِ يُثْلِجُ الصَّدْرَ.

وَقَالَ بَعْضُ الْكُتَّابِ:

لَيتَ الشِّتَاءَ يَعُودُ لِي بِنَعِيمِهْ … إِنَّ الشِّتَاءَ غَنِيمَةُ الْكُتَّابِ

قِصَرُ النَّهَارِ وَطُولُ لَيلٍ مُمْتِعٍ … فِيهِ نُلَذُّ بِقَينَةٍ وَشَرَابِ

بَابُ ذَمِّ الشِّتَاءِ

جَاءَ فِي الْخَبَرِ: الْحَرُّ يُؤْذِي وَالْبَرْدُ يَقْتُلُ.

وَقَالَ الثَّعَالِبِيُّ: الشِّتَاءُ عَذَابٌ وَبَلَاءٌ، وَعِقَابٌ وَلَأْوَاءُ، يَغْلُظُ فِيهِ الْهَوَاءُ، وَيَسْتَحْجِرُ لَهُ الْمَاءُ، وَتَنْحَجِرُ الْفُقَرَاءُ، وَمَا ظَنُّكَ بِمَا يُذْوِي الْوُجُوهَ، وَيُعْمِشُ الْعَينَينِ، وَيُسِيلُ الْأُنُوفَ، وَيُغَيِّرُ الْأَلْوَانَ، وَيُقْشِفُ الْأَبْدَانَ، وَيُمِيتُ كَثِيراً مِنَ الْحَيَوَانِ، فَكَمْ فِيهِ مِنْ يَومٍ أَرْضُهُ كَالْقَوَارِيرِ اللَّامِعَةِ، وَهَوَاؤُهُ كَالزَّنَابِيرِ اللَّاسِعَةِ، وَلَيلٌ يَحُولُ بَينَ الْكَلْبِ وَهَرِيرِهِ، وَالْأَسَدِ وَزَئِيرِهِ، وَالطَّيرِ وَصَفِيرِهِ، وَالْمَاءِ وَخَرِيرِهِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى