النثر

نص نثري إشارة الحمامة

كَانَتِ الْحَيوَانَاتُ وَالطُّيُورُ مِنْ أَهَمِّ عَنَاصِرِ النَّثْرِ فِي الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ، فَأَدْخَلَ الْأُدَبَاءُ الْعَرَبُ شَخْصِيَّاتِ هَذِهِ الْبَهَائِمِ وَالْأَنْعَامِ فِي صَمِيمِ كَلَامِهِمُ الْمَنْثُورِ، فَأَعْطَتْ هَذِهِ الشَّخِصِيَّاتُ الْفَرِيدَةُ النَّصَّ الْعَرَبِيَّ جَمَالاً مُنْقَطِعَ النَّظِيرِ، فَكَانَتْ أَشْبَهَ بِالْخَيَالِ الْعِلْمِيِّ فِي لِبَاسٍ أَدَبِيٍّ فَرِيدٍ.

وَمِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ عِزُّ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ (الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٦٧٨ هِجْرِيَّةً) فِي كِتَابِهِ كَشْفُ الْأَسْرَارِ فِي حِكَمِ الطُّيُورِ وَالْأَزْهَارِ، نَنْقُلُهُ لَكُمْ كَمَا أَورَدَهُ.

النَّصُّ النَّثْرِيُّ: إِشَارَةُ الْحَمَامَةِ

يَقُولُ الْمَقْدِسِيُّ:

فَبَينَمَا أَنَا مُسْتَغْرِقٌ فِي لَذَّةِ كَلَامِهِ، مُعْتَبِرٌ بِحِكْمَتِهِ وَأَحْكَامِهِ، إِذْ رَأَيتُ أَمَامَهُ حَمَامَةً، قَدْ جَعَلَ طَوقَ الْعُبُودِيَّةِ فِي عُنُقِهَا عَلَامَةً، فَقُلْتُ لَهَا: حَدِّثِينِي عَنْ شَوقِكِ وَذَوقِكِ، وَأَوضِحِي لِي مَا حِكْمَةُ تَطْوِيقِ طَوقِكِ؟ أَنَا الْمُطَوَّقَةُ بِطَوقِ الْأَمَانَةِ، الْمُتَقَلِّدَةُ تَقْلِيدَ الصِّيَانَةِ، فَأَنَا لِحَمْلِ الْأَمَانَةِ قَدْ نُدِبْتُ، وَبِالْمُحَافَظَةِ عَلَيهَا أُمِرْتُ.

فَإِذَا رَأَيتُ أَهْلَ الْجِنَايَةِ نُدِبْتُ أَحْمِلُ الرَّسَائِلَ، وَأُبَلَّغُ الْوَسَائِلَ، وَأُجِيبُ الْمَسَائِلَ، وَأُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، وَلَا أُسَائِلُ. وَلَكِنِّي أُخْبِرُكَ بِخَبَرِي، لِتَعْلَمَ حَقِيقَةَ مَخْبَرِي، أُخْبِرُكَ بِالْقِصَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّ الدَّينَ النَّصِيحَةُ، مَا كُلُّ طَائِرٍ أَمِينٌ، وَلَا كُلُّ حَالِفٍ يَصْدُقُ فِي الْيَمِينِ، وَلَا كُلُّ سَالِكٍ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا الْمَخْصُوصُ بِحَمْلِ الْأَمَانَةِ جِنْسِي، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي.

يَحْمِلُ الْأَمَانَةَ مِنَّا مَنْ كَانَ أَبْلَقَ وَأَخْضَرَ؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنُ فِي الشَّكْلِ وَالْمَنْظَرِ، وَأَعْدَلُ فِي الْخَبَرِ وَالْمَخْبَرِ، وَلَا تَكُونُ الشِّيَمُ الْعَلِيَّةُ إِلَّا فِي الرُّوحِ الزَّكِيَّةِ، وَلَا شَرَفُ الْعَزِيمَةِ إِلَّا فِي النَّفْسِ النَّفِيسَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ. فَإِنَّ اعْتِدَالَ لَونِ الطَّائِرِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِدَالِ تَرْكِيبِهِ، فَيَصْلُحُ حِينَئِذٍ وَتَأْدِيبَهُ، فَلَمَّا بَاشَرَنِي مُؤَدِّبِي بِالتَّخْرِيجِ، وَعَرَّفَنِي الطَّرِيقَ بِالتَّدْرِيجِ، أَقُولُ: حَمِّلُونِي مَا شِئْتُمْ، فَأَحْمِلُ كُتُبَ الْأَسْرَارِ، وَلَطَائِفَ الْأَخْبَارِ، فَحِينَئِذٍ أَطِيرُ، وَأَقْطَعُ الْهَولَ الْمُسْتَطِيرَ، خَائِفاً مِنْ جَارِحٍ جَانِحٍ، حَاذِراً مِنْ سَايِحٍ سَارِحٍ، جَازِعاً مِنْ صَائِدٍ ذَابِحٍ، أُكَابِدُ الظَّمَأَ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَطْوِي عَلَى الطُّوَى فِي الْمَحَاجِرِ، فَلَو رَأَيتُ حَبَّةَ بُرٍّ مَعَ شِدَّةِ جُوعِي، عَدَلْتُ عَنْهَا، وَذَكَرْتُ مَا جَرَى عَلَى آدَمَ مِنْهَا، فَأَرْتَفِعُ خَشْيَةً مِنْ كَمِينِ فَخٍّ مَدْفُونٍ، أَو شِرْكٍ يَعُوقُنِي عَنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَأَنْقَلِبُ بِصَفْقَتِي مَغْبُوناً، فَإِذَا أَنَا وَصَلْتُ، وَفِي مَأْمَنِي حَصَّلْتُ أَدَّيتُ مَا حَمَلْتُ، وَعَمِلْتُ بِمَا عَلِمْتُ، فَهُنَالِكَ طُوِّقْتُ، وَبِالْبِشَارَةِ خُلِقْتُ، ثُمَّ انْقَلَبْتُ إِلَى شُكْرِ اللَّهِ عَلَى مَا وُفِّقْتُ، وَفِي ذَلِكَ أَقُولُ:

أَأَحْبَابِي وَصَلْتُمُ أَو صَدَدْتُمْ … فَعَبْدُكُمْ عَلَى حِفْظِ الْأَمَانَةْ

مُقِيمٌ لَا يُزَحْزِحُهُ عَذُولٌ … وَلاَ يُثْنِي مُعَنِّفُهُ عِنَانَهْ

حَمَلْتُ لِأَجْلِكُمْ مَا لَيسَ تَقْوَى … جِبَالٌ أَنْ تَحْمِلَهَا وِزَانَهْ

فَحِفْظُ العَهْدِ مَا وَافَاهُ حُرِّ … وَلَو أَودَى هَوَاهُ بِهِ وَشَانَهْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى