علم المعاني

ما الفرق بين الفصاحة والبلاغة

إن من يريد دراسة البلاغة العربية لا غنى له عن الإلمام بمفهومِ كلٍّ من الفصاحة والبلاغة؛ وذلك لأن الكلام الذي يتحلى بهاتين الصفتين هو أجمل صنوف الكلام، والمتكلم الذي يمتلك هاتين الخَلَّتين هو شخص ظافر بشرف كبير. ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش».

ما الفصاحة؟

الفصاحة لغة: تدل على جملة معانٍ، تدور جميعاً في فلك البيان والوضوح؛ إذ تقول العرب:

يومٌ فِصْحٌ ومُفْصِحٌ؛ أي لا غيم فيه ولا برد.

وأفصحَ اللبنُ؛ أي ذَهَبَتْ رَغْوَتُهُ أو انقطع اللبأ عنه.

وأفصح الصبح: استبان.

وأفصح الرجل: بَيَّنَ.

وفي سياق الحديث عن الكلام والمتكلم يقولون: الفصاحة هي البيان، واللفظ الفصيح: هو ما يُدْرَكُ حُسْنُهُ بالسمع.

وفَصُحَ الأعجميُّ: إذا تكلم بالعربية وفُهِمَ عنه، أو كان عربياً فازداد فصاحةً.

ويستفاد من الدلالة اللغوية في الأمثلة السابقة أن الفصاحة تعني: الانكشاف والظهور والوضوح في الأشياء. أما الصنعة الكلامية فتعني: انكشاف دلالة الكلام، وظهور حُسْنه لمتلقيه.

وعند البلاغيين يوسف بصفة البلاغة ثلاثة أشياء: الكلمة، والكلام، والمتكلم.

فيقال: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، وكاتب فصيح، وشاعر فصيح. وإليك تفصيل القول في كل منها:

فصاحة الكلمة

تعني فصاحة الكلمة عند البلاغيين براءتها من خمسة أشياء يَعُدُّونها عيوباً:

أولاً: تنافر الحروف: وهو وصف في الكلمة ينشأ عنه ثقل الكلمة على اللسان وعسر النطق بها. وغالباً ما يكون مبعث ذلك تقارب مخارج حروف الكلمة. والتنافر ضربان:

  • شديد يصعب معه النطق بالكلمة، كألفاظ (الظَّشِّ) بمعنى الموضع الخشن، و(الهُعْخُعُ) وهي كلمة جاءت في قول أحد الأعراب وقد سئل عن ناقته فقال: “تركتُها ترعى الهعخع”. وقد تكون كلمة الهعخع مخترعة للتدليل على ثقل بعض نماذج الكلم. فقد ذهب بعضهم إلى القول إن هذه الكلمة (معاياة) ولا أصل لها.
  • خفيف لا يأنس الناطق بالكلمة المنطوية عليه صعوبة كبيرة في نطقها، كلفظ (مستشزرات) في قول امرئ القيس يصف شَعر حبيبته:

غدائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلى العُلا * تَضِلُّ العِقاصُ في مُثنىً ومرسَلِ

مستشزرات: أي مرفوعات، يصف الشاعر شَعْرَ ابنة عمه بالغزارة فيذكر أن غدائره مشدودة على الرأس، وأن مجموع الشعر منه عقاص أو غدائر، ومنه مثنىً أي (مفتول)، ومنه مرسَلٌ دون فتل، وأن العقاص تغيب في الأخيرين. ومراد الشاعر على الجملة: وُفُور شعرها وجمال وضعه.

وقد لاحظ بعض الدارسين أن في صوت كلمة مستشزرات تصويراً دقيقاً لمعناها؛ أي إن التفشي الذي نلحظه في صوت الشين وانتشار الهواء وامتلاء الفم عند النطق به توحي بانتشار الشَّعْر وتشعيثه وذهابه في كل وجهة.

ثانياً: الغرابة: وهي أن تكون الكلمة حُوشيَّة غير ظاهرة المعنى. ومصدر الغرابة أمران:

  • عدم تداول الكلمة في كلام العرب الفصحاء؛ مما يقضي التنقيب عن معناها في معاجم اللغة. وقد تسعف المعاجم ببيان معنى الكلمة الغريبة، كالذي نجده في كلمتي (تكأكأتم) و(افرنقعوا) اللتين جاءتا في قول عيسى بن عمر النحوي، وقد سقط عن دابته، فاجتمع عليه الناس فقال: “ما لكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جِنَّة، افرنقعوا عني”. ومعنى تكأكأتم: اجتمعتم، ومعنى افرنقعوا: انصرفوا.
  • صعوبة إدراك المراد منها في السياق الذي تَرِدُ فيه، مثل كلمة (مُسرَّجاً) في قول العجاج:

أيامَ أبدَتْ واضحاً مفلجا * أغر براقاً وطرفاً أدعجا

ومقلة وحاجباً مزججا * وفاحماً ومرسناً مسرجا

فقد وصف الشاعر حاجب محبوبته بأنه مدقق طويل، وشعرها بأنه حالك كالفحم، وأنفها المرسن بأنه مسرج. ويصعب على المتلقي أن يدرك بدقة ما يريد الشاعر بهذه الصفة (مسرج).

ثالثاً: مخالفة الوضع: وهي أن تكون الكلمة مخالفة لاستعمال الواضع الأول سواء أكانت مخالفة للقياس الصرفي أم لا. ومما جاء مخالفاً للوضع والقياس معاً كلمة (بوقات) في قول المتنبي يمدح سيف الدولة الحمداني:

فإن يكُ بعض الناس سيفاً لدولة * ففي الناس بوقات لها وطبول

وبوقات في البيت جمع بوق بمعنى المزمار. وعلى الجملة فكلمة بوقات هنا غير فصيحة؛ لمخالفتها ما ثبت عن واضع الألفاظ للمعاني ومخالفتها القياس الصرفي؛ إذ يتقضي كل منهما بأن تجمع على (أبواق).

رابعاً: الكراهة في السمع: وهي أن تكون بنية الكلمة من أصواتٍ يُشَكِّلُ التئامُها صيغة لفظية تأنفها الأذواق وتمجها الأسماع، مثل كلمة (النُّقاخ) أي “الماء العذب” في قول الشاعر:

وأحمق ممن يكرع الماء قال لي * دع الخمر واشرب من نقاخٍ مبرَّدِ

خامساً: الابتذال: وهو أن تكون الكلمة سوقية أبلاها التكرار ولاكتها الألسن حتى مجها الذوق وعافها الطبع السليم. ومن ذلك الفعل (تفرعن) في قول أبي تمام:

جليت والموت مبدٍ حُرَّ صفحته * وقد تفرعن في أفعاله الأجلُ

فالفعل تفرعن المشتق من اسم فرعون من ألفاظ العامة؛ إذ من عادتهم أن يقولوا: تفرعن فلان.

وجملة القول أن فصاحة الكلمة تعني كما يقول بعضهم:

أن تكون لينة سهلة النطق، تتجاوز أصواتها تجاوزاً هادئاً، تتجاوب فيه وتتلاقى أنغامها، وأن تكون مألوفة جرت على الألسن ورنَّت أصداؤها في محافل الشعر والأدب، وأن تكون واردة على قواعد تصريف الكلمات.

فصاحة الكلام

يريد البلاغيون بفصاحة الكلام أمرين:

١ –فصاحة مفرداته: بسلامتها من عيوب الكلمة التي تَقَدَّمَ ذِكرُها.

٢ –تآلف هذه المفردات فيما بينها وتساوقها وسهولة إدراك العقل معانيها.

ويرون أن ذلك مشروط ببراءة الكلام من ستة عيوب:

أولاً: تنافر المفردات داخل السياق: وهو وصف في كلمات التركيب الواحد، ينشأ عنه تعثر اللسان في النطق به؛ لصعوبة تدفق كلماته على اللسان مجتمعة. ومصدره: إما تجاور كلمات متقاربة الحروف، وإما تكرار كلمة واحدة. وقد تبين البلاغيون أن تنافر المفردات على ضربين:

  • شديد الثقل، كعجز هذا البيت:

وقبر حرب بمكان قفر * وليس قرب قبر حرب قبر

فكلمات الشطر الثاني متنافرة تماماً، حتى إن اللسان ليجهد في النطق بها.

  • خفيف الثقل، كصدر هذا البيت لأبي تمام يعتذر لممدوحه:

كريم متى أمدحْهُ أمدحْهُ والورى * معي وإذا ما لمته لمته وحدي

ثانياً: ضعف التأليف: وهو أن يكون تركيب الكلام مخالفاً للمشهور من قوانين النحو. ومن ذلك وصل الضميرين، وتقديم غير الأعرف منهما على الأعرف، كما في قول المتنبي:

خَلَتِ البلادُ من الغزالةِ ليلها * فأعاضهاكَ الله كي لا تحزنا

الغزالة: الشمس، أراد: خلت البلاد من الشمس ليلاً فعوضها الله عن الشمس بك لك لا تحزن. وقوله في عجز البيت (أعاضهاك) مخالف للمشهور من قوانين النحو التي تقضي بالفصل بين الضميرين في مثل هذه الحال. ومن ثم هذا الكلام غير فصيح لضعف التأليف فيه.

ثالثاً: التعقيد اللفظي: وهو أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد منه لعدم ترتيب ألفاظه على ترتيب معانيه. ومبعث ذلك في الكلام تقديم أو تأخير أو حذف، أو غير ذلك مما ينشأ عنه صعوبة فهم المراد، وهو على ضربين:

  • شديد: كالذي يتراءى في قول الفرزدق يمدح إبراهيم المخزومي خال هشام بن عبد الملك:

وما مِثْلُهُ في النَّاسِ إلَّا مملَّكاً * أبو أمِّهِ حيٌّ أبوه يقارِبُهْ

وقد أراد الشاعر أن يقول: ليس مثل هذا الممدوح في الناس حي يقاربه في الفضائل إلا ملكاً هو ابن أخت هذا الممدوح.

ومصدر خفاء دلالة البيت عدم ترتيب الألفاظ وفق ترتيب المعاني في الذهن، وذلك بسبب:

  • وجود فاصل كبير بين البدل (حي) والمبدل منه (مثله).
  • تقديم المستثنى (مملكاً) على المستثنى منه (حي).
  • الفصل بين المبتدأ والخبر (أبو أمه –أبوه) بكلمة (حي).
  • الفصل بين الصفة (حي) والموصوف (يقاربه) بكلمة (أبوه).

ويذهب بعض الباحثين إلى أن الفرزدق –الشاعر الخبير بطبائع اللغة وعوائد التركيب- إنما قصد هذا التعقيد تهكماً بالمدح والممدوح وعداء الفرزدق لبني أمية معروف.

  • خفيف، كالذي يرسم لك ملامحه قول المتنبي:

جَفَخَتْ وهُمْ لا يجفخونَ بِها بِهِمْ * شِيَمٌ على الحَسَبِ الأغرِّ دلائلُ

أراد: جفخت (افتخرت) بهم شيم دلائل على الحسب الأغر، وهم لا يجفخون بها. وواضح أنه فصل بين الفعل (جفخت) والفاعل (شيم) بجملة (وهم لا يجفخون بها)، وفصل بين الموصوف (شيم) والصفة (دلائل) بالجار والمجرور، وبين الفعل (جفخت) والجار والمجرور المتعلقَين به (بهم) بالجملة (وهم لا يجفخون بها).

ونخلص من هذا إلى القول: إن التعقيد اللفظي هو عدم وضوح دلالة الكلام لخلل في نظمه، وإن التراكيب التي تنطوي عليه غير فصيحة؛ لكونها لا تشف عن معانيها.

رابعاً: التعقيد المعنوي: وهو أن يكون الكلام غني الدلالة عن المراد لتعثر انتقال الذهن من المعنى اللغوي للكلمة إلى المعنى الكنائي المقصود.

والمثال التقليدي لذلك بيت العباس بن الأحنف:

سَأَطْلُبُ بُعْدَ الدَّارِ عَنْكُمْ لِتَقْرَبُوا * وَتَسْكُبُ عَينَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدَا

يشير الشيخ عبد القاهر الجرجاني إلى أن معنى البيت: “إني اليوم أطيب نفساً بالبعد والفراق، وأوطنها على مقاساة الأحزان واأاشواق، وأتجرع غصصها وأتحمل لأجلها حزناً يُفِيضُ الدموعَ من عيني؛ لأتسبب بذلك إلى وصل يدوم ومسرة لا تزول، فإن الصبر مفتاح الفرج، ولكل بداية نهاية، ومع كل عسر يسر”.

وجملة القول إن التعقيد المعنوي هو خفاء دلالة الكلام على المراد منه؛ لخللٍ مبعثُهُ عدم قدرة الذهن على الربط بين الدلالة اللغوية والدلالة الكنائية المرادة من العبارة.

خامساً: كثرة التكرار، ومثالها قول المتنبي:

وتُسعدني في غمرة بعد غمرة * تبوح لها منها عليها شواهدُ

فقد وصف فرسه بسلاسة العَدْوِ وسهولته حتى كأنها تعوم في الماء. و(لها) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و(منها) حال من شواهد، و(عليها) جار ومجرور متعلقان بشواهد، وشواهد: مبتدأ مؤخر.

والشاهد في عجز البيت؛ حيث أخل تكرار الضمير بفصاحة شطر البيت.

سادساً: تتابع الإضافات: ومثاله قول ابن بابَك يخاطب حمامة:

حمامةَ جَرْعى حَومةِ الجَنْدلِ اسجعي * فأنتِ بمرأى من سعادَ ومسمعِ

يسأل الشاعر حمامة هذا الموضع أن تسجع وتطرب إعجاباً بمحبوبته وسروراً بها؛ لأنها في هذا الموضع الذي تراها فيه سعاد وتسمع صوتها.

والشاهد في صدر البيت: حيث أضاف (حمامة) إلى (جرعى) وهي أرض ذات رمل عديمة النبت، وأضاف (جرعى) إلى (حومة) وهي معظم الشيء، وأضاف (حومة) إلى (الجندل) وهي الأرض ذات الحجارة، ومثل هذه الإضافات المتتابعة مخل بفصاحة الكلام.

وجملة القول أن فصاحة الكلام تعني:

فصاحة مفرداته وسلامته من تنافر كلماته مجتمعة ومن ضعف التأليف وتعقيد الألفاظ والمعاني، ونأيه عن كثرة التكرار وتلاحق الإضافات.

فصاحة المتكلم

يُعَرِّفُ الخطيب القزويني فصاحة المتكلم بأنها:

مَلَكَةٌ يُقْتَدَرُ بها على التعبير عن المقصود بلفظ صحيح.

ويعني ذلك أن يكون المتكلم قادراً دائماً على التعبير عما يشاء من الأفكار والمقاصد في الوقت الذي يشاء بألفاظ فصيحة. ويُفهم من السياقات التي تخلع فيها العرب هذه الصفة على المتكلم أن الفصيح عندهم هو ذلك المتكلم القادر على التصرف في فنون الكلام متى شاء ذلك وبأداء لغوي فصيح.

وقال: إن الفصاحة تقتضي أمرين أساسيين: صفاءٌ في الذهن يدرك المناسبة بين الفِكَرِ، ثم يُسْراً في تشكيل هذه الفِكَرِ في قوالب كلامية تشف عن هذه الفكر وتبين عنها خير إبانة؛ فقولنا فصيحة يعني أنها مبينة.

ما البلاغة؟

البلاغة لغة: بلوغ الرجل بعبارته كُنْهَ ضميره، تقول: بلغ الرجلُ أي صار قادراً على التعبير عما يريد.

ويمكن تلخيص أقوال العلماء في البلاغة ونقلها بتصرف على النحو الآتي:

-هي بلوغك الغاية وتبليغها غيرك، وسميت بلاغة؛ لأنها توصل المعنى إلى قلب السامع مباشرة ليفهمه.

أو هي أن تبلغ المعنى إلى قلب السامع بصورة مقبولة وعرض حسن.

-أو هي وصف الكلام بدلالة حسنة وتامة مع تزيينها بأبهى صورة حتى تستولي على هوى النفس، وتحظى بقبول القلوب.

وتخلع العرب صفة البلاغة على اثنين: الكلام والمتكلم، فتقول: هذا كلام بليغ وغاية في البلاغة، كما تقول: هذا متكلم بليغ، ولم يُسمع عن العرب وصفهم الكلمة الواحدة بالبلاغة.

وإليك تفصيل القول في بلاغة الكلام وبلاغة المتكلم.

بلاغة الكلام

يقول الخطيب القزويني: “البلاغة في الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته.

وفي التعريف ثلاثة أشياء تستدعي التحديد، وهي: الحال، ومقتضى الحال، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال.

أولاً: الحال

يراعي البليغ في كلامه طبيعة من يسوق حديثه إليه والظرف المحيط به، والجو النفسي الذي يعيش تحت وطأته. ونحس نحن المتحدثين العاديين بأثر ذلك في كلامنا؛ إذ نُعِدُّ كلامنا دائماً على نحو يتناسب فيه الإطار الذي يقال فيه.

ويأخذ كلامنا صوراً مختلفة تبعاً لطبيعة من نتكلم معهم؛ فكلامنا مع الوالدين غير كلامنا مع الأشقاء، وكلامنا مع معلمينا غير كلامنا مع زملائنا … إلخ، هذه الأوضاع التي نقدم فيها كلامنا وتؤثر في صياغتنا إياه تسمى (أحولاً) أو (مقامات) أو (سياقات).

ويُعَرِّفُ البلاغيون الحال بأنه:

الأمر الحامل للمتكلم على إيراد كلامه في صورة خاصة، أو الأمر الداعي لِأَنْ يعتبر المتكلم في كلامه خصوصية ما.

ثانياً: مقتضى الحال

ويُعَرِّفه البلاغيون بأنه: الكلام الكلي الموسوم بطابع خاص.

ويعني هذا التعريف أن الذين نقبوا في كلام البلغاء وفي البيان العالي في القرآن الكريم، تبين لهم أن للكلام صوراً خاصة وصياغات محددة وهيئات ثابتة، وأن كل صورة وصياغة وهيئة تستخدم في حال خاصة ومقام محدد وإطار معين.

وتبين لهم بعد ذلك وجود ترابط متين بين هذه الصور والصياغات والهيئات الكلامية وبين الأحوال والمقامات التي تقال فيها، فخلصنا من ذلك إلى القول: إن هذه الأحوال الخاصة والمقامات المحددة هي التي اقتضت تلك الصور والصياغات والهيئات الكلامية؛ ومن ثم سموا تلك الصور والصياغات والهيئات مقتضيات كلامية للأحوال؛ لأن هذه الأحوال والمقتضيات هي التي أملتها، وإليك التمثيل لذلك:

-الكلام المؤكد بأي طريقة من طرق التأكيد هو مقتضى حال الإنكار عند المتلقي؛ أي إن صورة التأكيد في الكلام هي أمر تقتضيه حال الإنكار عند المتلقي.

-الكلام الموجز المختصر هو مقتضى حال الذكاء عند المتلقي؛ أي إن صورة الاختصار في الكلام أمر يستدعيه الذكاء عند المتلقي.

-الكلام المطنب المسهب هو مقتضى حال الغباء وصعوبة الفهم عند المتلقي.

وفي المجمل فالكلام المؤكد والكلام الموجز والكلام المطنب وغيرها: هي مقتضيات أملتها أحوال خاصة وعادات يعرفها المتكلمون عند من يوجهون إليهم كلامهم. وهيئات كلامنا كلها استجابات لتصورنا لحال من نكلمهم، ومِن هنا جاءت الحكمة: كلموا الناس على أقدار عقولهم.

وصفوة القول أن مقتضى الحال هو:

كيفيةٌ كلامية يعرفها المتكلم، ويعرف الحال الذي تقتضيها عند المخاطب، وتبقى في ذهنه فكرة كامنة وتصوراً عقلياً، حتى إذا جاءت الحال التي تقتضيها أثناء التخاطب أخرج كلامه وفقاً لها. وقانونها العام: لكل كلمة مع صاحبتها مقام.

ثالثاً: مطابقة الكلام لمقتضى الحال

وهي ظهور كلام المتكلم وفق الصورة التي تقتضيها الحال التي يقال فيها؛ أي تطبيق المتكلم في كلامه ما تفرضه عليه حال مخاطبه من مقتضى.

وإليك المثال:

قال بشار بن برد يذكر جاريته ربابة:

ربابةُ ربَّةُ البيتِ * تصبُّ الخلَّ في الزَّيتِ

لها عشرُ دجاجاتٍ * وديكٌ حَسَنُ الصَّوت ِ

وقال مفتخراً:

إذا ما غصبنا غضبة مضرية * هتكنا حجاب الشمس أو تقطر الدما

إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة * ذُرى منبرٍ صلى علينا وسلما

فهنا نلاحظ التباين الواضح بين هذين القول من حيث البساطة والوضوح وتناول المعاني وإيثار الوزن الأكثر غنائية في خطاب بشار لجاريته، ومن حيث الجزالة والفخامة والقوة وإيثار الوزن الأكثر رزانة وثقلاً في بيتي الفخر.

فهو آثر البساطة في خطابه لجاريته حتى تدرك المعنى بيسر فتُسَرَّ له وتبتهج به، فالكلام المبسط الظاهر المعاني العادي الأفكار هو (مقتضى حال) الخطاب الموجه لإنسان ثقافته محدودة. وهذا المقتضى هو قانون لغوي، وإن ظهور كلام بشار على الصورة التي ظهر عليها في البيتين؛ أي تنفيذ قانون المتقضى، هو (مطابقة لمقتضى الحال).

وفي مقابل بيتي ربابة كان التفاخر والتباهي (حالاً) في بيتي الفخر، وهي حال تقتضي كلاماً قوي الألفاظ فخم المعاني حافلاً بصور الكبرياء والقوة والأنفة. ومثل هذه الكيفية (مقتضى حال) متكلم جائش النفس ثائر الخواطر. وإن ظهور كلام بشار على الصورة التي ظهر عليها –أي تطبيقه قانون المقتضى- هو (مطابقة لمقتضى الحال).

وعليك أن تعلم جيداً أن مقتضى الحال هذا أو (الاعتبار المناسب) كما يسمى أحياناً، يختلف باختلاف الحال وفقاً للقانون البلاغي العام (لكل مقام مقال) الذي يساوي القول (لكل حال مقتضى).

بين البلاغة والفصاحة

بعض العلماء لا يفرقون كثيراً بين البلاغة والفصاحة، بل يستعملونهما كمترادفين.

بينما يقول آخرون: إن الفصاحة في الألفاظ، والبلاغة في المعاني، ودليلهم قول العرب: لفظ فصيح، ومعنى بليغ.

يذهب البلاغيون إلى أن البلاغة هي تطبيق الكلام على مقتضى الحال مع فصاحته، وهكذا فشرط الكلام البليغ أن يسلم من العيوب المخلة بفصاحته وفصاحة أجزائه. وينتج عن هذا أن البلاغة أعم من الفصاحة؛ إذ كل كلام بليغ هو فصيح لا محالة، وليس كل كلام فصيح بليغاً؛ فقد يكون فصيحاً لكنه غير مطابق لمقتضى الحال. وهكذا فبين الاثنين علاقة عموم وخصوص.

بلاغة المتكلم

بلاغة المتكلم عند البلاغيين: ملكة في النفس يقتدر بها صاحبها على تأليف كلام بليغ: مطابق لمقتضى الحال، وسليم من نواقض الفصاحة في أي معنى قصده. والملكات هي الصفات الراسخة التي تحصل بتكرار الشيء.

هذا والمتكلم البليغ أخص من الفصيح؛ لأن المتكلم البليغ مَنْ يتحلى بملكة الإتيان بالكلام البليغ. وقد عرفنا أن الكلام البليغ ينبغي أن يكون فصيحاً، أما المتكلم الفصيح فقد يفقد صفة البلاغة بأن يأتي بكلام فصيح ولكنه غير مطابق لمقتضى الحال.

وقد سُئل أعرابي: ما هذه البلاغة فيكم؟ فأجاب: شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا.

ويُفهم من هذا أن البلاغة تشمل التفكير في المعاني التي تُعْتَمَدُ في الذهن وتهيئتها وإعدادها، ثم اختيار القوالب الكلامية التي تصور هذه المعاني خير تصوير مراعىً في صياغتها شرطا البلاغة الأساسيان: مطابقة مقتضى الحال، والفصاحة.

الأمران اللذان يتوقف عليهما حصول البلاغة

الأول: تشكيل المعنى المراد بصورة أداء كلامي مناسب للحال التي يقال فيها، حتى لا يؤدَّى المعنى المراد بلفظ فصيح غير مطابق لمقتضى الحال بأداء لغوي غير صحيح.

الثاني: التزام الأداء اللغوي الفصيح؛ حتى لا يخرج الكلام المطابق لمقتضى الحال بأداء لغوي غير فصيح.

والسؤال الآن: كيف يمكننا تجنب العيوب المخلة بالفصاحة وتحقيق شروط البلاغة؟

يمكن ذلك عن طريق الوسائل التالية:

١ –تجنب الغرابة: وذلك بالاطلاع على علم متن اللغة، وتتبع الكتب المتداولة، والإحاطة بمعاني المفردات المأنوسة. وبذلك يكون في مقدورنا إدراك ما هو غريب حُوشِيٌّ واجبٌ نفيه من كلامنا.

٢ –تجنب المخالفة: وذلك بالإحاطة بما ثبت عن الواضع في معاجم اللغة، وبمعرفة علم التصريف الذي تكفلت قواعده بإيضاح صيغ المفردات وطرائق استعمالها.

٣ –الابتعاد عن ضعف التأليف والتعقيد اللفظي: عن طريق الإلمام بقواعد علم النحو؛ لأن من شأنه بيان طرق استعمال التراكيب على النحو الصحيح.

٤ –إدراك التنافر: ويُدْرَكُ بالذوق السليم المقوى بالمران والتدريب؛ فهو الذي يتحسس ما في الألفاظ المفردة والتراكيب من صور التنافر أو التأليف.

٥ –الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد بالصورة اللفظية المناسبة، وتمكننا منه دراسة علم المعاني وفهم مقاصده وتوجيهاته.

٦ –تجنب التعقيد المعنوي: ونتعرفه بدراسة علم البيان؛ فمَنِ استوعب مفردات هذا العلم استبان السبيل المثلى لعرض المعاني واضحة بينة لا تشكو تعقيداً ولا عوجاً.

٧ –حاجة الكلام إلى المحسنات والجماليات التي تعطيه فخامة وتزيده طلاوة وبهاء: ويكون هذا بدراسة علم البديع؛ فمن ألم بمباحثه عرف وجوه تحسين اللفظ والمعنى.

سؤالات وإجاباتها حول فصاحة الكلمة

-حدد ما أخل بفصاحة الكلمات الموضوعة بين قوسين في الأبيات والعبارات الآتية:

١ –وَمَا أرضى لِمُقْلَتِهِ بِحُلْمٍ * إذا انتبهَتْ تَوَهَّمَهُ (ابتشاكا)

الإجابة: كلمة (الابتشاك) غير فصيحة لغرابتها؛ إذ هي قليلة الاستعمال.

٢ –لم يَلْقَهَا إلا بِشكَّةِ باسلٍ * يخشى الحوادثَ حازم (مُسْتَعْدِدِ)

الإجابة: كلمة (مستعدد) غير فصيحة لمخالفتها القياس؛ فالقياس (مُسْتَعِدٌّ).

٣ –إِنَّ بَنِيَّ لَلِئَامٌ زَهَدَهْ * ما لِيَ في صدورِهِمْ مِنْ (مَوْدَدَهْ)

الإجابة: كلمة (موددة) غير فصيحة لمخالفتها القياس؛ فالقياس (مَوَدَّةٌ).

٤ –يومٌ (عَصَبْصَبٌ) و(هِلَّوْفٌ) * ملأ السَّجْسَجَ طَلَّا

الإجابة: كلمتا (عصبصب) و(هلوف) غير فصيحتين لغرابتهما؛ إذ هما قليلتا الاستعمال.

٥ –قد قلتُ لمَّا (اطْلَخَمَّ) الأمرُ وانبعثَتْ * عَشواءُ تاليةً غُبْساً دَهَارِيسا

الإجابة: كلمة (اطلخم) غير فصيحة لغرابتها وغِلَظِها في السمع، ومثلها (دهاريس).

٦ –رُبَّ جَفْنَةٍ (مُثْعَنْجِرَةٍ)، وطَعْنَةٍ مُسْحَنْفِرَةٍ، وخُطبة مستحضرة، وقصيدة محبَّرة، تبقى غداً بأنقرةَ.

الإجابة: كلمة (مثعنجرة) غير فصيحة لتنافرها، ومثلها (مسحنفرة)، وهما قليلتا الاستعمال وثقيلتان في النطق.

سؤالات وإجاباتها حول فصاحة الكلام

-حدد ما أخل بفصاحة الكلام فيما يأتي:

١ –تَعَالَ فَإِنْ عَاهَدْتَنِي لَا تَخُونُنِي * نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ

الإجابة: في البيت تعقيد لفظي؛ غذ إن التقدير: نكن يا ذئب مثل من يصطحبان.

٢ –لَمَّا رَأَى طَالِبُوهُ مُصْعَباً ذُعِرُوا * وَكَادَ لَو سَاعَدَ الْمَقْدُورُ يَنْتَصِرُ

الإجابة: في البيت ضعف تأليف؛ لأن الهاء في (طالبوه) تعود على مصعب وهو متأخر لفظاً ورتبة.

٣ –لَو كُنْتَ كُنْتَ كَتَمْتَ السِّرَّ كُنْتَ كَمَا * كُنَّا وَكُنْتَ وَلَكِنْ ذَاكَ لَمْ يَكُنِ

الإجابة: في البيت تنافر الكلمات، وهو ناشئ عن تكرار لفظ (كنت).

زر الذهاب إلى الأعلى