موسوعة اللغة العربية

اللسانيات: نشأتها ومجالاتها وأهميتها ومنزلتها في العربية

اللسانيات هي الدراسة العلمية للغة، وهي أحد الجوانب الأكثر روعة وتعقيداً في الإدراك والتواصل البشري. تغطي اللسانيات مجموعة واسعة من المواضيع، بدءاً من بنية ومعنى الكلمات والجُمل، إلى تاريخ اللغات وتطورها، إلى العوامل الاجتماعية والنفسية التي تؤثر على كيفية استخدامنا للغة وتعلمها. في هذه المقالة، سنقدم بعض الفروع الرئيسة والمجالات الفرعية للسانيات، ونشرح سبب أهمية اللسانيات وفائدتها لأي شخص مهتم باللغة.

ما هي اللغة؟

اللغة هي نظام من الرموز والقواعد التي تمكننا من التواصل مع بعضنا بعضاً. يمكن أن تكون الرموز أصواتاً أو إيماءات أو علامات مكتوبة تمثل المعاني. بينما القواعد هي الأنماط والمبادئ التي تحكم كيفية دمج الرموز وتفسيرها. على سبيل المثال، في اللغة الإنكليزية، الصوت /k/ هو رمز يمكن أن يعني أشياء مختلفة حسب السياق، مثل قطة (Cat) أو كعكة (Cake) أو ركلة (Kick). تخبرنا قواعد اللغة الإنكليزية عن كيفية تكوين الكلمات من الأصوات، وكيفية تكوين الجمل من الكلمات، وكيفية نقل رسائل مختلفة بجمل مختلفة.

اللغة ظاهرة طبيعية فطرية لدى الإنسان. ويتمتع جميع البشر بالقدرة على اكتساب اللغة واستخدامها، بغض النظر عن ثقافتهم أو تعليمهم أو ذكائهم. اللغة هي أيضاً ظاهرة اجتماعية يشكلها التفاعل البشري والثقافة. تعكس اللغات المختلفة طرقاً مختلفة للتفكير والتعبير وتنظيم المعلومات. اللغة هي أيضاً ظاهرة ديناميكية تتغير بمرور الوقت وعبر المواقف. تُظهر الكلمات والمعاني والهياكل الجديدة وتنتشر مع تكيف اللغة مع الاحتياجات والتأثيرات الجديدة.

ما هي اللسانيات؟

اللسانيات هي الدراسة العلمية للغة. تهدف اللسانيات إلى الإجابة عن الأسئلة الأساسية حول كيفية عمل اللغة، مثل:

  • كيف نُنتج اللغة وندركها؟
  • كيف نكتسب اللغة ونتعلمها؟
  • كيف نستخدم اللغة في سياقات وأغراض مختلفة؟
  • كيف تختلف اللغات وتتغير بمرور الزمان والمكان؟
  • كيف ترتبط اللغات ببعضها البعض وبالمجالات المعرفية الأخرى؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، يستخدم اللغويون أساليب وأدوات مختلفة، مثل الملاحظة والتجريب والتحليل والنمذجة. ويعتمد اللغويون أيضاً على المعرفة والرؤى من التخصصات الأخرى، مثل علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلوم الكمبيوتر والفلسفة.

تعريف اللسانيات

اللسانيات علم يدرس اللغات الإنسانية مكتوبة ومنطوقة، وتهدف اللسانيات إلى وصف وتفسير أبنية اللغات واستخراج القواعد المشتركة بينها، إضافة إلى القواعد الخاصة التي تضبط العلاقات بين العناصر المؤلفة لكل لغة.

وباختصار: اللسانيات هي دراسة اللغة دراسة علمية.

-فطبيعة هذا العلم أنه دراسة للغة وليس إتقاناً للعدية من الألسنة.

-وموضوعه اللغات الإنسانية بعامها وهي اللغة، وخاصها وهو اللسان، وفرديها وهو الكلام.

-ويبحث هذا العلم في اللغة بحثاً شاملاً متماسك الأجزاء بمنهجية محكمة، وينشد ضالته في شتى العلوم دون أن يصطبغ بصبغتها.

تسميات أخرى للسانيات

عَرَفَتِ اللسانيات تسميات أخرى، ومنها: علم اللغة واللغويات، وعلم اللغويات الحديث، والدراسات اللغوية الحديثة، وعلم اللسان، والألسنية، والألسنيات، وكلها ترجمة لكلمة (Linguistics) بالإنكليزية، و(Linguistique) بالفرنسية.

وكانت ندوة الألسنية واللغة العربية المنعقدة في تونس عام ١٩٧٨ أوصت باستعمال مصطلح اللسانيات دون غيره.

نشأة اللسانيات

ترجع نشأة اللسانيات إلى القرن التاسع عشر؛ فقد شهد ثلاثة أحداث كبرى في مسيرة هذا العلم، وهي:

١ –اكتشاف اللغة السنسكريتية، وذلك على يد وليم جونز (William Jones) سنة ١٧٨٦، وعلى إثر ذلك كثر استخدام تلك اللغة أساساً للمقارنة ضمن اللغات الهندية الأوربية.

٢ –ظهور الدراسات المقارنة وذلك بتأثير علم الأحياء؛ فقد عُنيت بالوقوف على صلات القرابة بين اللغات من خلال المقارنة بين أبنيتها، وأشهر أعلامها الألماني فريدريك شليجل (Friedrich Schlegel) توفي عام ١٨٢٩، والدانماركي راسموس راسك (Rasmus Rask) توفي عام ١٨٣٢، والألماني فرانز بوب (Franz Bopp) توفي عام ١٨٦٧ في كتابه (نظام تصريف اللغة السنسكريتية) (System der Konjugation des Sanskrit) حيث قارنها بالأنظمة الصرفية المعروفة في اللغات اليونانية واللاتينية والفارسية والجرمانية.

٣ –ظهور الدراسات التاريخية وذلك بتأثير علم التاريخ وأشهر أعلامها الألماني جاكوب غريم (Jacob Grimm)، ومدرسة النحويين المُحْدَثِين وكل أعلامها كانوا ألمانيين وعلى رأسهم كارل بروغمان (Karl Brugmann)، إلى أن ظهرت الدراسات الوصفية بتأثير علم الاجتماع، وأشهر أعلامها السويسري فرديناند دي سوسير (Ferdinand de Saussure) الذي توفي سنة ١٩١٣ في كتابه (محاضرات في الألسنية العامة) وبالإنكليزية (Course in General Linguistics) وبالفرنسية (Cours de linguistique générale).

مهمات اللسانيات

يرى فرديناند دي سوسير أن اللسانيات تقوم بثلاث مهمات هي:

١ –تقديم الوصف والتاريخ لمجموع اللغات، وهذا يعني سرد تاريخ الأسر اللغوية وإعادة بناء اللغات الأم في كل منهما ما أمكن ذلك.

٢ –البحث عن القوى الموجودة في اللغات كافة، وبطريقة شمولية متواصلة ثم استخلاص القوانين العامة التي يمكن أن نرد إليها كل ظواهر التاريخ الخاصة.

 ٣ –تحديد نفسها والاعتراف بها.

مناهج اللسانيات

إن مناهج أي علم هي طرقه التي يسلكها في تناول موضوعاته، وللسانيات أربعة مناهج هي بحسب تسلسل ظهورها.

  • المنهج المقارن.
  • المنهج التاريخي.
  • المنهج الوصفي.
  • المنهج التقابلي.

١ –المنهج المقارن: يقوم على دراسة العلاقات التاريخية بين لغتين فأكثر؛ بغية التوصل إلى تقسيم اللغات إلى فصائل وعائلات وابتناء اللغات الأم.

٢ –المنهج التاريخي: يقوم على دراسة التطورات التي تطرأ على لغة ما خلال تاريخها بغية التوصل إلى القوانين العامة التي تنظم اللغات جميعاً.

٣ –المنهج الوصفي: يقوم على دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها انطلاقاً من أنها بنية، وبعيداً عن معيار الخطأ والصواب، ويستلزم هذا تحديداً لكل من الزمان والمكان والمجال.

٤ –المنهج التقابلي: يقوم على دراسة الفروق الموضوعية بين لغتين فأكثر، ولا يشترط تفرعهما عن أصل واضح، بخلاف المنهج المقارن، بغية تذليل العقبات في تعليم لغات لغير أبنائها.

وتجدر الإشارة إلى أن المنهج الوصفي أساس سائر المناهج الأخرى؛ فالمقارنة والتاريخ والتقابل لا يمكن أن تتم قبل الوصف.

قطاعات اللسانيات

إن ما يميز اللسانيات من العلوم الأخرى أنها تبحث في اللغة بحثاً شاملاً متماسك الأجزاء؛ فتدرس الظواهر اللغوية كافة؛ الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية.

وهي قطاعات متراتبة بعضها فوق بعض، بحيث يغدو المستوى الأدنى منها يدخل في المستوى الأعلى منه، وهكذا دواليك، متخذة تلك القطاعات شكل هرم مقلوب.

١ -الصوتيات (Phonetics): وهي دراسة الخصائص الفيزيائية وإنتاج أصوات الكلام والإيماءات المكافئة في لغات الإشارة.

٢ -علم الأصوات أو الفونولوجيا (Phonology): وهو دراسة النظام المجرد وأنماط الأصوات والإيماءات في اللغة.

٣ -علم الصرف أو المورفولوجيا (Morphology): وهو دراسة بنية وتشكيل الكلمات في اللغة.

٤ -بناء الجملة (Syntax): وهو دراسة بنية وتكوين الجمل في اللغة.

٥ -علم الدلالة (Semantics): وهو دراسة معنى وتفسير الكلمات والجمل في اللغة.

ويمكن إضافة فرع آخر وهو:

٦ –البراغماتية (Pragmatics): وهي دراسة كيفية استخدام اللغة وفهمها في سياقات ومواقف مختلفة.

ما هي مجالات اللسانيات؟

يمكن تقسيم اللسانيات إلى عدة مجالات، اعتماداً على تركيز ونطاق الدراسة. وهي:

١ -اللسانيات التاريخية (Historical linguistics): وهو دراسة أصل اللغات وتطورها وتغيراتها مع مرور الوقت.

٢ -اللسانيات المقارنة (Comparative linguistics): وهي دراسة أوجه التشابه والاختلاف بين اللغات وتصنيفها إلى عائلات ومجموعات لغوية.

٣ -اللسانيات الاجتماعية (Sociolinguistics): وهي دراسة العلاقة بين اللغة والمجتمع، مثل كيفية اختلاف اللغة وتغيرها وفقاً للعوامل الاجتماعية، مثل المنطقة والطبقة والجنس والعرق.

٤ -اللسانيات النفسية (Psycholinguistics): وهي دراسة العمليات والآليات العقلية المرتبطة بإنتاج اللغة وإدراكها واكتسابها.

٥ -اللسانيات العصبية (Neurolinguistics): وهي دراسة الأسس العصبية والبيولوجية للغة واضطراباتها.

٦ -اللسانيات التطبيقية (Applied linguistics): وهي دراسة التطبيقات العملية للمعرفة والأساليب اللغوية، مثل تدريس اللغة والترجمة وتكنولوجيا الكلام.

وأما انقسام اللسانيات إلى نظرية وتطبيقية؛ فيراد بالأولى دراسة اللغة لذاتها، ويراد بالأخرى توظيف تلك الدراسة لأغراض نفعية مثل فن الترجمة ومعالجة أمراض الكلام، وصناعة المعاجم.

٧ –اللسانيات الجغرافية (Geolinguistics): وهي دراسة التوزيع الجغرافي وتنوع اللغات وعلاقتها بالثقافة والبيئة.

٨ –اللسانيات الأنثروبولوجية (Anthropological linguistics): وهي دراسة العلاقة بين اللغة والثقافة، وخاصة في اللغات غير المكتوبة وسياقاتها الاجتماعية.

٩ –اللسانيات البيولوجية (Biological linguistics): وهي دراسة الأسس البيولوجية وتطور اللغة، وكذلك تطبيق الأساليب والمفاهيم البيولوجية على الظواهر اللغوية.

١٠ –اللسانيات الرياضية (Mathematical linguistics): وهي دراسة الخصائص والنماذج الرياضية والمنطقية للغة، وكذلك استخدام الأدوات والتقنيات الرياضية لتحليل البيانات والمشكلات اللغوية.

١١ –اللسانيات الحاسوبية (Computational linguistics): وهي دراسة النمذجة الحسابية ومعالجة اللغة الطبيعية، وكذلك تطوير وتقييم تطبيقات وأنظمة اللغة الطبيعية.

لماذا تعد اللسانيات مهمة ومفيدة؟

إن اللسانيات مهمة ومفيدة لعدة أسباب، مثل:

١ -تساعدنا اللسانيات على فهم أنفسنا والآخرين بشكل أفضل: فمن خلال دراسة كيفية عمل اللغة، يمكننا الحصول على نظرة ثاقبة حول كيفية تفكيرنا وتواصلنا وتعلمنا. ومن خلال دراسة كيفية اختلاف اللغات وتغيرها، يمكننا أن نقدر تنوع وثراء الثقافات والتاريخ البشري.

٢ -تساعدنا اللسانيات على تحسين مهاراتنا وقدراتنا اللغوية: فمن خلال تعلم قواعد وأنماط اللغة، يمكننا تحسين النطق والقواعد والمفردات والكتابة. ومن خلال تعلم كيفية استخدام اللغة في سياقات وأغراض مختلفة، يمكننا تحسين مهارات الاتصال والإقناع والجدال لدينا.

٣ -تساعدنا اللسانيات على حل مشاكل وتحديات العالم الحقيقي: ومن خلال تطبيق المعرفة والأساليب اللغوية، يمكننا تطوير وتحسين الأدوات والتقنيات التي تعزز التواصل والتفاعل البشري، مثل التعرف على الكلام، والترجمة الآلية، ومعالجة اللغة الطبيعية، والذكاء الاصطناعي.

منزلة تراثنا اللغوي من اللسانيات

إن تراثنا اللغوي على غناه لا يعدو هو واللسانيات من قبيل واحد، وهذا لا يعني انتقاصاً له أو انتصاراً لها، بل هو الاعتراف بحدود العلوم وتميزها بعضها عن بعض، على أن هذا لا يمنعنا من أن نرفد بحوثنا اللسانية بنفائس ذاك التراث؛ فكثيراً ما نقف على نظرات مدققة لا يملك اللسانيون اليوم إلا الإقرار بتفوقها، وهذا الرفد هو أقل ما نفعله بِرّاً بلغويينا وتعريفاً للآخرين بجهودهم.

عقبات اللسانيات في طريقها إلى اللغة العربية

لا تزال اللسانيات غريبة على جمهور المشتغلين بالدراسات اللغوية عندنا، وأهم ما يقف عقبة في طريقها أمران:

١ –كثرة مصطلحات هذا العلم والاختلاف من حول هذه المصطلحات حتى غدا علماً ضبابياً لا يُعرَف كيف يُنْفَذُ إليه، وأوضح مثال على الفوضى التي تعصف بالمصطلح اللساني هو عنوان هذا العلم.

٢ –تفوق الدراسات اللغوية في تراثنا تفوقاً حمل كثيراً من اللغويين على الزهد فيما أنتجه غيرهم من أبناء الحضارات الأخرى، فضلاً على أن من بين ثوابتنا ما لا تُقِرُّ به اللسانيات كالنظر إلى الفصحى والعامية والوصفية والمعيارية في اللغة واللهجات الحديثة.

خاتمة

اللسانيات هي الدراسة العلمية للغة، وهي إحدى الجوانب الأكثر روعة وتعقيداً في الإدراك والتواصل البشري. تغطي اللسانيات مجموعة واسعة من المواضيع، بدءاً من بنية ومعنى الكلمات والجمل، إلى تاريخ اللغات وتطورها، إلى العوامل الاجتماعية والنفسية التي تؤثر على كيفية استخدامنا للغة وتعلمها. تعد اللسانيات ذات صلة ومفيدة لأي شخص مهتم باللغة؛ لأنها تساعدنا على فهم أنفسنا والآخرين بشكل أفضل، وتحسين مهاراتنا وقدراتنا اللغوية، وحل مشاكل وتحديات العالم الحقيقي.

زر الذهاب إلى الأعلى